لسنوات، ظلت مناقشات السياسة الخارجية تركز على ما إذا كان الإسلام يتوافق مع الديمقراطية أم لا. لكن هذا أصبح شيئا من الماضى الآن. ففى تونس ومصر، ها هم الإسلاميون، الذين اعتبروا طويلا معارضين للنظام الديمقراطى، يشجعون عليه ويشاركون فيه بفرح. حتى السلفيون المتطرفون لهم الآن نوابهم فى البرلمان المصرى، بفضل الاقتراع، الذى كانوا يستنكرونه حتى وقت قريب باعتباره بدعة. بالنسبة للمهتمين بالتطرف فى الشرق الأوسط، يعد هذا خبرا جيدا. فقد كان عزل وقمع الإسلاميين على يد العلمانيين هو السبب فى تفريخ التطرف. (كان أيمن الظواهرى، المنظر البارز للقاعدة، ممن اعتادوا غرف التعذيب على عهد حسنى مبارك). ولن يصبح الإسلاميون أكثر اعتدالا إلا إذا توقف قمعهم، وإلا إذا أصبحوا أكثر برجماتية عندما يتصدون لمسئوليات الحكم.
لكن هناك سببا آخر للاهتمام: ماذا لو فرضت الأحزاب الإسلامية المنتخبة قوانين تقيد الحريات الفردية مثل حظر الخمور وإعدام المرتدين، وكل هذا بدعم من الشعب؟ ماذا لو لم تخدم الديمقراطية الحرية؟
إن هذا السؤال نادرا ما يطرح فى الغرب، حيث تعتبر الديمقراطية غالبا كمرادف للحرية. لكن هناك، كما يحذر فريد زكريا فى كتابه «مستقبل الحرية»، ديمقراطيات ليبرالية كذلك لا تخضع فيها سلطة الأغلبية للمراجعة الليبرالية الدستورية، ولا تضمن حقوق وحريات كل المواطنين. وهذا خطر يهدد بلاد ما بعد الربيع العربى، بل وتركيا ما بعد الكمالية. من هنا، فإن الحوار الحقيقى ينبغى أن يكون حول ما إذا كان الإسلام يتوافق مع الليبرالية.
وتتركز النقطة الأساسية فى هذا الجدال فى ما إذا كانت أوامر الإسلام تدخل فى باب القانون أم الأخلاق. فعندما يقول المسلمون إن الإسلام يأمر بالصلاة يوميا أو يحرم الخمر، هل هم يتحدثون عن التزامات عامة تتولى الدولة تنفيذها أم إنها أمور شخصية حسابها عند الله؟
بالنسبة لأصحاب الرأى الأول، تبدو السعودية الدولة المثال. فشرطتها الدينية تضمن أن يعتبر كل سعودى أى حكم إسلاميا: النساء مجبرات على ستر أنفسهن، والرجال مجبرون على الذهاب إلى المساجد، والجميع ممنوعون من ارتكاب كل ما يعتبر معصية. لكن هناك أفرادا من النخبة السعودية يقومون برحلات إلى الخارج، حيث يترددون على الملاهى الليلية ويرتكبون معاصى لا يمكنهم ارتكابها فى بلادهم. وفى حين أن هذا يعتبر من حقوقهم المدنية، إلا أنه يثير السؤال حول ما إذا كانت تقوى السعودية الشديدة نوعا من الرياء.
●●●
بالمقابل، وبدلا من فرض الممارسات الإسلامية بالقوة، ظلت الجمهورية التركية المبالغة فى علمانيتها لعقود تقاوم هذه الممارسات بشراسة، إلى حد منع غطاء الرأس. إلا أن المجتمع التركى ظل شديد التدين، بفضل الأسرة والتقاليد والطائفة وكبار رجال الدين. من هنا، يفضل كثيرون فى تركيا اليوم، حيث يتمتع الفرد بحرية الاختيار بين الحانة والمسجد، الذهاب إلى المسجد بوازع من ضمائرهم وليس خضوعا لإملاءات الدولة. لكن حتى فى تركيا، حيث تعززت الديمقراطية بخطوات سريعة خلال حكم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، هناك أسباب للقلق من إمكانية ظهور ديمقراطية ليبرالية. ولأن تركيا مازالت تعانى من جنون العظمة القومى الذى ينفر من حقوق الأقليات، نجد قبضة السلطة القضائية الشديدة مصاغة لحماية الدولة وليس مواطنيها، وثقافة سياسية لا تعرف التسامح تعتبر أى نقد هجوما، وترى فى الأفكار المثيرة جريمة.
على أن العقبات أمام الديمقراطية الليبرالية لا صلة لها بالدين؛ إنها ميراث سنوات من السياسات العلمانية الاستبدادية. لكن حزب العدالة والتنمية، الذى يحكم منذ حوالى عشر سنوات وأدخل إصلاحات ليبرالية مهمة، تضاءلت مؤخرا روحه التقدمية. وقد استوعب الحزب قدرا من الليبرالية التقليدية للمؤسسة فى أنقرة، العاصمة، التى يسيطر عليها الآن بالكامل. إنه ليس إسلاميا تماما؛ إنه فقط يثبت إنه تركى تماما.
ومثلما يدعم الحزب الأغلبية التركية المحافظة دينيا، يتحتم على النخبة الجديدة تحرير النظام السياسى، بدلا من مجرد استغلاله لخدمة مصالحها. ومع ظهور أسئلة جديدة حول الدين والحياة العامة هل يجب أن تروج المدارس للإسلام؟ هل ينبغى منع بيع الخمور؟ هل يجب أن تلزم الدولة قنوات التليفزيون الخاصة بمراعاة «القيم الأخلاقية»؟ يجب أن تحمى الحكومة الحريات المدنية، ومن بينها «حرية ارتكاب المعصية»، وتمنع أولئك الساعين إلى استغلال سلطة الدولة فى فرض قيمهم على الآخرين.
وإذا نجحت تركيا فى هذه التجربة الديمقراطية، وصاغت دستورها الجديد الذى يجرى إعداده على هذا الأساس، يمكنها أن تقدم مثالا واعدا للحكومات التى يقودها الإسلاميون فى تونس ومصر وفى أى مكان. فكل هذه البلاد ليست بحاجة ماسة إلى الديمقراطية الإجرائية فقط، وإنما إلى الليبرالية كذلك. وهناك كذلك أساس منطقى إسلامى لها: ما يفرض دينيا يقود إلى الرياء. فعلى المنادين بالتدين الحقيقى إرساء الحرية أولا.
كل الحقوق محفوظة لشركة النيويورك تايمز لمبيعات الخدمات الصحفيه