يقول الكاتب العالمى باولو كويلو فى روايته The Zahir، ما مؤداه أنه «عندما نزيح قصص الماضى من عقولنا، فإنه يتم تلقائيا تخليق مساحة ذهنية جديدة تؤطر لمزيد من التحرك الإيجابى الشجاع نحو التقدم». وقياسا على ما تقدم، فإنه وبعد أيام وأسابيع قليلة يسدل الستار على الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، وكذلك آخر فصول مراحل محاكمة القرن أى النقض، ومن ثم، فإنه يغدو لزاما على مصر الجديدة أن تنفض عن نفسها ركام الماضى وغبار عثراته، متطلعة للمستقبل المنشود بتحدياته الكثيرة وآماله المتعددة!.
بعيدا من الحكم الذى اختلف الناس بشأنه.... ففى حين ارتآه البعض مرضيا، اعتبرته جماهير أخرى مسيسا أو غير كاف أو متناسبا مع الحدث الجلل الذى أزهقت فيه أرواح وبترت أعضاء وفقدت عيون.. فالمشاعر متأججة ولها الاحترام، والغضب عارم وله التقدير، فإن علينا الأ نظل أسرى للماضى المثخن بجراحه وآلامه.. غافلين أن العالم من حولنا يعدو، ولا يهرول فقط، فى غمار مشروعات التنمية والتقدم، ومتناسين أن نصف شعبنا يرزخ تحت وطأة فقر مدقع وهو وضع يستحيل استمراره فى الجمهورية الثانية!.
●●●
ووصولا للتوازن المنشود بين الحاجة إلى الاعتبار من دروس الماضى دون الإغراق فيه والتطلع الايجابى للمستقبل، فإن هناك ثلاثة أمور يحسن التنبه له والتحذر من تبعاتها. أولى تلك الأمور هو تنامى ثمة تيار «سوداوى» فى مجتمعنا.. فالجميع يخون الجميع ويشككون فى نزاهتهم وأمانتهم ووطنيتهم، وفقا لقاعدة أن الجميع عرضة بل ومستحق للعنة إلا «أنا» الوحيد الوطنى الشريف الثورى... إلخ مثلما يتوهم المتوهمون ويتخرص المتخرصون.!! ففى هذا الإطار الحماسى، الذى يغلب عليه فى كثير من الأحيان عدم العقلانية، فيسميه البعض «النزق الثورى» أى الحمية المبالغ فيها التى لا تقبل إلا اتفاق الرأى بل وتطابقه يتشاجر الأصدقاء ويختلف الأقارب، حيث يتمسك كل شخص برأيه، ويرى مخالفيه، بالضرورة، إما أعداء الوطن والثورة وإما متخاذلون تجاه حقوق الشهداء ودمائهم.. ويغذى من هذا المنحدر المزايدات المستمرة من المتاجرين بالثورة وأدعيائها بمنطق انتهازى بحت يستهدف المصلحة الشخصية واستدرار الاعجاب الزائل والشعبية السطحية!!.
وثانى الأوهام الذى يجب أن نتخلص منها، هو ما يتصوره البعض بشأن إمكانية أن تفضى الثورة بعد حين إلى تخليق مجتمع مثالى خال من الفساد ومنغصات الحياة، وإلا ستكون الثورة حينئذ قد باءت بالفشل!. ويقينا، فإن الإغراق فى هذا الوهم لا يفيد فى النظر بالايجابية إلى أى تحسن يطرأ على مجتمعنا، فمثل هذة «اليوتوبية الثورية» لم تفض من قبل إلى تخليق مثل هذا المجتمع فى عصر الأنبياء، وبالتالى فلا يوجد ما يجعلنا نتوقع تحققه الآن، فالفساد جزء من الطبيعة البشرية المليئة بتناقضات الخير والشر منذ بدء الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وثالث الأثافى التى تهدد السلام المجتمعى وتمثل عقبة كؤود أمام التنمية والتقدم، هو غلو البعض ومغالاته من خلال المناداة بحتمية العزل والإقصاء لكل من عمل مع النظام السابق، غافلين أن النظام السالف قد أمضى 30 عاما فى الحكم، وهو ما يعنى أن جميع قيادات الجهاز الإدارى للدولة، بل وأن أغلب الخبرات والكفاءات فى جميع المجالات هى نتاج تعليم وتوظيف تلك الفترة.
●●●
وعلى ما يبدو أنه يسود مصر الآن تياران فكريان، أحدهما يرى ضرورة الهدم الكلى.. للبناء «على نظيف» مثلما يتصورون... بينما يرى التيار الآخر أن ما تحقق حتى الآن ما كان يجول بخاطر أى شخص يوم 24 يناير 2011، ومن ثم فإن عمليتى الهدم والبناء.. أى التفكيك والتركيب معا، يحسن أن تتم بشكل متوازن ومستقر تدريجى للتغلب على عثرات لا يمكن تقدير كنهها إن اتبعنا المبدأ الثورى الكاسح فى إدارة شئون البلاد، فالثورة قد تغير أو تسقط نظاما، ولكن التخطيط الهادئ الممنهج هو وحده القادر على وضع الأسس لبناء نظام فاعل جديد.
والبادى أن أنصار الفريق الثانى يكتسبون أرضا بمرور الوقت، حسبما تبدى فى نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، التى كشفت عن أن التيارين الأكثر غلبة فى المجتمع المصرى أحدهما يستحسن فكرة التيار الدينى، بنسخة الإخوان المسلمين، وثانيهما يتوق إلى استقرار سريع.. حتى وإن كان على يد آخر رئيس وزراء فى العهد السالف. ولعل ما أفضى إلى تلك النتيجة التباس المرحلة الانتقالية بكل سلبياتها وصعوباتها وترهاتها وأخطائها الجمة!
●●●
ما بين هذا وذاك، سوف يختار المصريون رئيسهم القادم ليقود البلاد لفترة أربع سنوات، لهى أشبه ما تكون بمرحلة انتقالية «حقيقية»، ولنكتشف جميعا أن كل ما جرى كان تمهيدا لها. ونقدر أن الرئيس الجديد لن يكون بمقدوره أن يفعل كل ما يريده إلا بتوافق شعبى عام، فالتدافع السياسى بات هو بوصلة الأحداث وتطوراتها فى بلادنا.. بعد أن بات شعبنا مسيسا حتى النخاع.. متواصلا مع شئون الحكم وآلياته ليل نهار.. ومن ثم، فإن المبالغة فى الخوف من استنساخ الماضى ولو بصورة معدلة مصححة، أو الوقوع فى براثن دولة ثيوقراطية دينية يمكن أن تورطها الايديولوجية داخليا وخارجيا.. إلخ.. لربما تحيق المبالغة بشأنه.
وأخيرا، فلنتذكر أن الرسول (ص) لم يكن ضعيفا أو عاجزا عندما أطلق مقولته الشهيرة عند فتح مكة فى العام الثامن من الهجرة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» تجاه من ساموه ورفاقه سوء العذاب، ولكنه أرتأى أن يبنى دولته على مبادئ العدل والرحمة والتسامح، ليترك المجال لمن رغب فى تصحيح وضعه أن يفعل.. وليزيح بذلك المساحة الذهنية التى يشغلها الماضى، بكل سوءاته، فى أذهان رفاقه بل وأعدائه أيضا، لكى تتوافر مساحة أخرى للجميع للنظر للمستقبل الواعد. وليس المراد مما سبق النكوص عن القصاص، وإلا كنا نهدر قيمة أساسية تستند إليها الدول وهى العدالة وحكم القانون.. فالعدل اساس الحكم، ولكنها دعوة للنظر كذلك إلى المستقبل، وسيادة اليقين فى العدالة السماوية قبل الوضعية، فمن عجزت آليات القانون عن القصاص منه، لن يفلت من عقاب الآخرة، وهو أشد وطأة وأنكى سبيلا.