تبدو الجمعية التأسيسية متجهة إلى اعتماد النظام المختلط إطارا للحكم فى الدستور الجديد للبلاد؛ بغية التوصل إلى توافق بين النظامين البرلمانى والرئاسى، على أن يتم تقليص سلطات رئيس الجمهورية. بيد أنه يخشى أن تفضى التوافقات المتعجلة إلى مزيد من التعثر السياسى ذى الصبغة الدستورية، لا سيما إذا ما تمت هذه التوافقات بين النقائض، وكانت مرتبطة بمناط القصور فى دستور 1971 وهو طبيعة نظام الحكم وصلاحيات رئيس الجمهورية. علاوة على ذلك، فالتجربة المختلطة تعانى من انتقادات فى عدد من الدول، بما فيها فرنسا التى ينسب إليها هذا النظام.
•••
وبالرجوع خطوة عن هذا التوافق، يرى قطاع من القوى السياسية أن تغدو مصر جمهورية برلمانية، تتقلص فيها صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح رئيس الوزراء، الذى يرشحه البرلمان. ورغم نجاح النظام البرلمانى فى عدد من الدول كبريطانيا واليابان وكندا وأستراليا، فإنه قد لا يكون الأنسب فى مصر على الأقل خلال المرحلة المقبلة لأسباب منها:
أولا: أن تطبيق ذلك النظام فى تلك الدول قد استغرق عقودا طويلة، اكتسب خلالها استقرارا، وأفرز عددا محدودا من الأحزاب القوية التى يمكنها الاكتساح فى الانتخابات أو الدخول فى ائتلافات مع عدد ضئيل من الأحزاب الصغيرة لتجاوز النسبة المقررة للحصول على أغلبية مقاعد البرلمان. أما تطبيق ذلك النظام فى بعض دول المنطقة، كالعراق ولبنان وإسرائيل، فضلا عن دول أوروبية كمالطا، فلا يتمتع بذلك الاستقرار، الأمر المرشح للظهور فى الحالة المصرية؛ نظرا لضعف الأحزاب فرادى؛ نتيجة اعتماد الجمهورية الأولى لنظام الحزب الواحد إبان الحقبة الناصرية، والتضييق على تلك الأحزاب والقوى حتى بعد إعلان التعددية الحزبية منذ العهد الساداتى وحتى ثورة يناير 2011، فضلا عن عدم امتلاك معظم هذه الأحزاب لقاعدة جماهيرية عريضة، وهو ما انتهى إلى حالة من التشظى السياسى لا سيما داخل التيارين المدنى والسلفى على نحو ما كشفته الانتخابات البرلمانية والرئاسية مؤخرا.
ثانيا: نتيجة لهذه الفسيفساء الحزبية، فلن يمكن لحزب بمفرده حصد الأغلبية البرلمانية، ومن ثم تشكيل الحكومة منفردا، وهو ما أفرزته الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التى لم يستطع فيها حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية للإخوان المسلمين إحراز الأغلبية، ما يعنى حتمية الدخول فى ائتلافات بين أحزاب ذات برامج سياسية مختلفة من أجل مصلحة وقتية، ومن ثم احتمال انهيار الائتلاف عند أول خلاف، أو الاستمرار حتى نهاية الدورة البرلمانية بقوانين هزيلة، تمثل الحد الأدنى من التوافق بين شركاء الائتلاف.
ثالثا: فضلا عن ذلك، فمفاوضات تشكيل الحكومة بين الكتل البرلمانية قد تستغرق وقتا طويلا، يدخل البلاد فى حالة من الشلل السياسى تستمر لشهور، الأمر الذى يتكرر فى العراق مثلا بعد كل انتخابات برلمانية.
•••
وإذا كان الأمر كذلك، وكان المطلوب تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، فقد يكون من الأفضل انتهاج نظام رئاسى قائم على الرقابة والتوازن Checks & Balances، وهو ما يحقق مزايا متعددة، من أبرزها:
أولا: تنويع خيارات الناخبين بين الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بما يحول غالبا دون سيطرة حزب واحد على البرلمان والحكومة، ما يضيع معه إلى حد كبير مفهوم الرقابة التشريعية على السلطة التنفيذية، حيث يمكن فى النظام الرئاسى أن يكون التشكيل الوزارى لا ينتمى إلى الأغلبية البرلمانية (وفقا لاختيار الرئيس لوزرائه وموافقة البرلمان على ذلك)، وهو ما تتجلى معه رقابة البرلمان للحكومة.
ثانيا: إلغاء منصب رئيس الوزراء، حيث يقوم رئيس الجمهورية برئاسة وزرائه بشكل مباشر، ويقوم بترشيحهم، ولا يصدق على تعيينهم إلا بعد موافقة البرلمان على ذلك الترشيح.
ثالثا: يترتب على زوال هذه الازدواجية بين منصبى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة غياب المفهوم الأبوى لرئيس الجمهورية الذى يعفيه من المساءلة عن أفعال وزرائه، بل يعتبر أى انتقاد لأى وزير فى الحكومة الرئاسية انتقادا لأداء الرئيس ذاته.
•••
رابعا: نظرا لعدم وجود ائتلاف حاكم مستند إلى كتل برلمانية، وإنما حكومة متجانسة يعينها رئيس الجمهورية وتحظى بقبول البرلمان، فإنه لا يتوقع انهيار الحكومة لخلافات سياسية كما فى الائتلافات البرلمانية.
وقد يكون من الضرورى فى النظام الرئاسى تضمين الدستور عددا من القواعد الآمرة jus cogens، أهمها:
أولا: ترشح رئيس الجمهورية ونائبه على بطاقة انتخابية واحدة، بما يكسر صنم الفرعونية التى يثير النظام الرئاسى هواجسها من جهة، ويسمح بانتقال سلس للسلطة حال شغور منصب الرئيس بشكل مفاجئ لاستكمال الولاية الرئاسية دون الحاجة إلى انتخابات مبكرة، وذلك باعتبار أن كلا من الرئيس ونائبه منتخبين انتخابا حرا مباشرا من الشعب.
ثانيا: إمكانية إعادة انتخاب رئيس الجمهورية على التوالى لفترة رئاسية واحدة فقط لا غير، مع اعتبار المادة التى تنص على ذلك مادة فوق دستورية، غير قابلة للتعديل لأى سبب، على غرار ما تم اتباعه فى الولاياتالمتحدة، تفاديا لتكرار ما قام به فرانكلين روزفلت من الترشح للرئاسة لأربع فترات متوالية.
ثالثا: فى جميع الأحوال، ينبغى إعادة توزيع الاختصاصات بين مجلسى الشعب والشورى، مع زيادة دور الأخير، ليغدو مجلس شيوخ Senate حقيقيا.
•••
إن تجربة عام ونصف العام من الاضطراب السياسى التى صاحبها انفلات أمنى وتدهور اقتصادى ينبغى ألا تغيب عن صانعى الدستور، وهو ما يتطلب اعتماد نظام حكم يتمتع بالاستقرار من جهة ومرونة آليات التغيير من خلال إجراءات تشريعية ورقابية صارمة من جهة أخرى، الأمر الذى قد لا يكفيه مجرد التوافق بين نموذجين للحكم لكل منهما تعقيداته، وإنما تبنى نموذج متكامل لنظام الحكم يتم تطعيمه بأية مزايا لدى نماذج أخرى، على نحو يتفادى ترك ثغرات دستورية تفتح الباب لاستمرار الجدل القانونى الدائر بالبلاد، والذى أدى بدرجة كبيرة إلى إفراغ ثورة يناير من مضمونها السياسى والاقتصادى والاجتماعى، المتمثل فى الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية