فيما تنجز الثورة العربية فى تونس ومصر أهدافها المرحلية الواعدة، لايزال ثوار ليبيا يتصدون لما تبقّى من نظام تتجاوز شراسة استبداده كل المعايير الثأرية، ما يفسر حالة الإنكار التى ميَّزت السلوك اللا عقلانى واللا معقول لمعمر القذافى، وهو ما أدى إلى ما يمكن اختزاله بأن يبقى مستأثرا بالتحكم لا مجرد الحكم بمعنى إما الرضوخ له أو اعتماده القتل. هذا بدوره يفسر إصرار الثوار على الإنجاز فى مقابل غياب الوجدان وانفلات التعامل من دون الضوابط التى سادت الاختراق فى كل من تونس ومصر وأدى إلى إقالة كل من الرئيسين السابقين ونظاميهما بكلفة يمكن إدراجهما فى إطار الثورات اللا عنفية. يستتبع بالضرورة تعريف الثورة بكونها تمكين عملية التطور الطبيعى لاستئناف دورها بما يصطدم مع نظم شمولية مستبدة وطاغية، وبالتالى عودة التطور إلى مساره فى توسيع مساحة حقوق الإنسان وفى تلبية حاجاته فى إنجاز الضمانات لكرامة لا كحالة فحسب، بل كفعل فى خضم المتغيرات التى من شأنها استمرار توسيع فرص ما توفره الإنجازات المتواصلة التى يستولدها بشكل متواصل فى حقول العلوم والمعلومات والاختراعات فى مجالات الصحة والثقافة والتعليم، وما توفره السياسة التى تعتمد على حق المساءلة والمساواة وتمكين المواطن من المشاركة فى إبداء الرأى وصناعة القرار كحق وليس كمنّة. من هنا فالتطور يكون حالة مستمرة، لكن طالما تم ردعه من خلال نظم قامعة، فإن الثورة تصبح آلة الاختراق لعودة سلامة مسيرة التطور طبيعية. ●●● نشير إلى هذه المعادلة كون ضمان سلامة التطور يكمن فى الثورة المستمرة، هذا ما يفسر حالة الاغتباط السائدة عند الشعب العربى من جراء ثورتى تونس ومصر، كونهما مهّدتا لاستئناف مسيرة عودة الكرامة للوطن وللمواطن بما يشكل إلهاما لحركات التغيير المتنامية فى أرجاء الأمة. أما فى ليبيا فنجد أن ما يقوم به ثوارها فهو فريد من نوعه، لأن الديكتاتور نفسه يتصرف وكأن مجابهة نظامه فى ليبيا بنظره عملية غزو يجوز سحقها. لذا تبقى هناك ضرورة ملحّة فى احتضان ومساعدة ثورة ليبيا ضد وضع شديد الغرابة، ما يجعل إنهاء الحالة المرضية التى تعانيها ليبيا مسئولية مباشرة لثورتى تونس ومصر، حماية لشعب ليبيا وتوفيرا لمزيد من المناعة للإنجازات المتواصلة التى تتجلى فى المرحلة الانتقالية باتجاه استقامة وصيرورة الأهداف البعيدة المدى التى التهمتها ثورتا تونس ومصر، ما يفسر الشعور الرائع بالمسئولية التى ميّزت سلوك المجتمعات المدنية والحكومات الانتقالية فى كل من تونس ومصر فى التعامل الإنسانى مع تدفق مئات الألوف الذين لجأوا إلى الحدود، برغم الانهماك المضنى فى إزالة ما أورثه النظامان السابقان من عوائق وإشكاليات معقّدة. كما أن ثورتى مصر وتونس اعتبرتا أن مسئولية تسريع الإنجاز لثورة ليبيا يسقط خيار تحريف مسار ثورة التغيير فى الأمة العربية عن مسارها، وهو ما يسعى ما تبقى من نظام القذافى إلى تحقيقه. لذا صار لزاما أن نعمل جميعا على حض المجتمع الدولى لممارسة مسئولياته تجاه شعب ليبيا، وتجاه الشرعية التى رسخها مجلس الأمن الصادرة بموجب الفصل السابع لميثاق الأممالمتحدة. ●●● نشير إلى الحاجة الملحة لترجمة عملية وسريعة وفورية لذلك فى خضم استمرار القتال وسقوط ضحايا متناثرة، حيث يستعمل النظام المتهاوى كل أنواع الأسلحة والطيران الحربى، والاعتداءات العشوائية على الشعب الآمن، إضافة إلى الإمعان بالتهديدات التى يتفاقم كلما تم تحرير المزيد من المدن القريبة من العاصمة التى من شأنها أن تؤدى إلى مذابح جماعية، ما يتطلب فرضا فوريا لحظر المجال الجوى وتسريع المساعدات الإنسانية، إضافة إلى الإجراءات العقابية التى اتخذت. صحيح عندما يسود انطباع بأن «المجتمع الدولى»، يعنى الغرب خاصة الولاياتالمتحدة، عندئذ تتراكم الهواجس ويسود انطباع بأن فرض الحظر الجوى على كردستان العراق كان استعدادا لتدخل أمريكى، لكن فرض مثل هذا إجراء يكون إضافة إلى مزيد من الحماية ورد العدوان عن الشعب الليبى، من خلال تنفيذ أحد البنود الرئيسة لقرار مجلس الأمن، وهو قرار دولى وليس بقرار غربى أو أمريكى. هذا يعنى أن تنفيذ القرار هو دولى وإجماعى، حتى ولو كانت عناصره من دول غربية أو أمريكية نظرا لمشاركة المقتدرين. القرار الذى اتخذه مجلس الأمن بالإجماع ينطوى على أن تنفيذه يستند إلى إرادة جماعية، حتى لو كان من يقوم بالإجراءات اللازمة دولة أو مجموعة دول، وبالتالى من يقرر الحاجة الملحة بمعنى عدم التأخير. لذا هذا الإجراء هو تصميم إجماع دولى للحيلولة دون تفرد النظام المتهاوى بارتكاب المزيد من الجرائم ضد الإنسانية وضد شعبه، ثم إذا كان من قدرة لدى أعضاء الجامعة العربية والاتحاد الأفريقى المشاركة، أو حتى المبادرة فى هذا الشأن، فهذا ليس مجرد حق لدولهم بل هو واجب. صحيح أن الدول التى تتوافر لديها القدرات التى تستطيع التجاوب الفورى لفرض الحظر الجوى هى دول غربية (فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، بريطانيا، الولاياتالمتحدة)، فهذا لا يعنى أن دولا أخرى تشارك فى تنفيذ الحظر أو أية إجراءات تسرّع فى الحول دون مزيد من الضحايا، فهذا هو جوهر معنى القرار، كون مسئولية تنفيذه هى مسئولية كل الدول الأعضاء، وإن بنسب متفاوتة. كل الدلائل والتطورات وحتى التوجه السليم الذى يلبى مطالب شرعية الثورة فيما يتعلق بخطوات الفترة الانتقالية المعبّرة عن مسيرة التطور التى انبثقت عن الثورة، تؤكد أن وضوح الرؤية لمستقبل العمل التى تمثل بإسناد رئاسة الحكومتين الانتقاليتين إلى شخصيتين، إحداهما أسهمت فى ثورة ساحة التحرير، والثانية كانت فى طليعة مساندى الثورة التونسية. إن الثورة فى كل من تونس ومصر أنجزتا خطوات جبّارة مضيئة استولدت احتراما، إضافة إلى الإعجاب. بدورها، فإن ثورتى تونس ومصر تستعيدان للعرب مرجعيتهم كمسئولين عن فلسطين كون المشروع الصهيونى لا يجابه إلا بمشروع قومى عربى تغييرى. فى نهاية الأمر تبقى الإنجازات التى تحققت فى تونس ومصر، وقريبا جدا فى ليبيا، والحراك المطالب بالتغيير والحكم الرشيد هى الواقع الجديد، ما يجعل من بقاء «إسرائيل» منفلتة من العقاب وبمنأى عن أية مساءلة، ناهيك عن المعاقبة، لذا فإن عودة مصر إلى دورها المرجعى الملهم سوف يكون الذى يغير بشكل جذرى معنى الواقعية وإخراجنا من الوقيعة التى بدورها كادت تجهض حقوق فلسطين الوطنية والإنسانية. الأهم الآن وفورا وقف النزيف فى ليبيا وفلسطين. الثورة العربية الآن مهيأة لاستئناف مسيرة التطور فى كل أرجاء الوطن العربى الكبير، كون وحدة الشعب العربى هى الضمان لاستعادة نجاعة البوصلة، ولنا فى ثورتى مصر وتونس المرجعية الموثوقة بعد أن كانت مفقودة.