تحدى الصحفيون الشجعان قرارات المحاكم، بل وتعرضوا للسجن حتى لا يتخلوا عن واجبهم الأخلاقى فى حماية المصادر. ولكن بينما تواصل الحكومات تسجيل جميع اتصالات مواطنيها حتى إنها تتنصت على الصحفيين وتفحص أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم فلن تعتمد سلامة المصادر غير المعلنة على المثل الأخلاقية للصحفيين فحسب، ولكن على مهاراتهم فى استخدام الكمبيوتر. والمحزن، أن سبل تأمين تشغيل أجهزة الكمبيوتر، ما زالت لا تدرس فى معظم المدارس الصحفية، وما زالت الممارسات السيئة فى مجال تأمين البيانات أمرا منتشرا على نطاق واسع فى وكالات الأنباء. حيث يتم إرسال معلومات سرية عبر خطوط التليفونات العادية، والرسائل النصية على الهواتف والبريد الإلكترونى، وجميعها وسائل يسهل اختراقها. ولا يكاد يكون من بين الصحفيين من يستخدم أدوات آمنة فى الاتصال، حتى تلك الأدوات المتاحة على نطاق واسع وسهلة الاستخدام. وغالبا ما يحاول المسئولون الحكوميون الضغط على الصحفيين لكشف مصادرهم، عبر استصدار مذكرات استدعاء لهم، والحصول منهم على شهادات جبرية، وتسجيلات الاتصالات. ولكن فى بعض الأحيان، لا يكون حتى ذلك ضروريا، لأن المصادر يكون قد تم كشفها بالفعل بسبب التساهل فى الاتصالات. ثم، هناك المراقبة غير المشروعة وأعتقد أنه يجب على الصحفيين الأمريكيين أن يتوقعوا رصد اتصالاتهم من قبل حكومتهم، وربما حكومات أخرى أيضا.
ونظرا لأننى خبير فى شئون الخصوصية والرقابة الحكومية، فأنا أتحدث بشكل منتظم مع الصحفيين فى وكالات الأنباء الكبرى، سواء هنا فى أمريكا أو فى الخارج. ومن بين مئات المحادثات التى أجريتها مع الصحفيين خلال السنوات القليلة الماضية، يمكننى التأكيد على أن من ذكروا أنهم يستخدمون نوعا من أنواع وسائل الاتصال المشفرة المقاومة للاختراق، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
وحتى عندما يحاول الصحفيون التصرف على نحو صحيح، فهم يرتكبون أخطاء خطيرة، مثل الاعتماد على برنامج سكايب. وقد يكون سكايب أكثر أمانا من الهواتف على نحو طفيف، لكنه ليس آمنا بأى حال من التطفل الذى يمكن القيام به باستخدام برامج اختراق متوافرة تجاريا.
وفى الشهر الماضى، اعترف وزير الداخلية الفرنسى كلون جيان بأن وكالات استخباراتية حصلت على قوائم تفصيلية للمحادثات التى أجراها صحفى فى لوموند. وقد مكنهم ذلك من تحديد موظف حكومى كان قد كشف عن معلومات حساسة بشأن تحقيق قانونى مع المليارديرة ليليان بتنكورت. غير أن الجدل الذى أعقب ذلك تركز على إساءة الحكومة استخدام سلطاتها، وليس على مسئولية الصحفيين عن استخدام اتصالات أكثر أمنا.
●●●
ولا ينبغى أن يتحمل الصحفيون اللوم بالكامل بسبب افتقارهم للخبرة فى مجال أمن الكمبيوتر فالمدارس الصحفية على أى حال علمتهم الكتابة، وليس التجسس على الجواسيس. كما يقع اللوم على الجامعات التى لم تعلمهم هذه المهارات، وعلى المؤسسات الصحفية التى تستثمر المخصصات المحدودة للتكنولوجيا فى ميزانياتها من أجل إنشاء مواقع إنترنت فاخرة، وليس من أجل التدريب على الأمن.
ولا تعتبر الجريدة التى تقرأها الآن استثناء من هذا النقد. وفى يونيو 2010،، ناقش «بيل كيلر»، رئيس التحرير التنفيذى لصحيفة نيويورك تايمز فى ذلك الوقت و« آلان روزبريدجر» رئيس تحرير صحيفة الجارديان، المخبأ السرى لبرقيات ويكيليكس عبر خط هاتف دولى غير مشفر، وفقا لما ذكر السيد كيلر.
ويعتبر عدم امتلاك التايمز لوسائل متاحة سهلة لتأمين الاتصالات، أمرا مثيرا للقلق، بالنظر إلى أن العملاء السريين، ساعدوا الجريدة خلال العقد الماضى، فى كشف العديد من العمليات الاستخباراتية السرية، بما فى ذلك حقيقة أن وكالة الأمن القومى كانت تتطفل بصورة غير مشروعة على المكالمات الهاتفية الدولية لآلاف الأمريكيين. وفى إحدى الحالات المشهورة عام 2004، حصل مكتب التحقيقات الفيدرالى بشكل غير سليم على تسجيلات هاتفية لوكلاء التايمز فى إندونيسيا (من دون قصد وفقا لما قالت السلطات).
وفى مايو، بعد فترة وجيزة من طرح وول ستريت جورنال موقعا على الإنترنت للتسريبات الأمنية، اكتشف دعاة الخصوصية مشكلات أمنية حرجة، من بينها سوء اختيار حسابات التشفير، وإمكانية الاختراق، وسياسة خصوصية تحتفظ بالحق فى الكشف عن معلومات بشأن المصدر «لسلطات فرض القانون أو لطرف ثالث يطلبها، من دون سابق إنذار».
وقد نأت العديد من المنظمات الإعلامية الكبرى بنفسها عن موقع ويكيليكس، التى تقول إنه متهور، ولا يندرج ضمن الصحافة الحقيقية. كما يلقى ما أعلنه هذا الأسبوع، مؤسس ويكيليكس «جوليان أسانج»، من أنه قد يغلق الموقع لأن شركات مثل ماستر كارد وفيزا لم تعد تقدم التبرعات إلى المجموعة، الضوء على الخطر الذى يواجه المجموعة.
ولكن إذا كانت السمة المميزة للصحافة الجيدة هى القدرة على حماية المصادر السرية، فينبغى النظر إلى ويكيليكس فى الواقع، باعتباره منارة لأفضل الممارسات. فعلى العكس من الممارسات المشينة لمعظم الصحفيين، تتمتع ويكيليكس بتأمين مذهل فى العمل: حيث تستخدم الرسائل الفورية مشفرة لجميع الاتصالات فى وقتها الحقيقى، كما تستخدم تقنية التشفير القوية لحماية الملفات أثناء تداولها بين الأفراد، ويتم إخفاء مواقع تقديم الخدمة «السيرفر» باستخدام برنامج «تور بروجكت»، وهو أداة خصوصية معروفة تتيح إخفاء بيانات الاتصال.
●●●
وبصرف النظر عن الرأى فى السيد «أسانج»، إلا أنه خبير بارع فى أمن البيانات. وهو على دراية هائلة بأمن المعلومات تزيد كثيرا على دراية أبرع الصحفيين فى أمور التكنولوجيا. ويبدو أن طريقته ناجحة فلم يمكن الكشف عن طريق مؤسسته عن أى من مصادر ويكيليكس السرية. (تم الكشف عن برادلى ماننج، الجندى المتهم بالتسريب بواسطة أحد معارفه).