قبل مائة عام، تنازل الإمبراطور الطفل 6 سنوات من أسرة تشينج الملكية عن الحكم فى 12 فبراير، 1912، منهيا أكثر من ألفى عام من الحكم الإمبراطورى فى الصين. ولكن هذه اللحظة الفاصلة بالنسبة للصين الحديثة لن يتم الاحتفال بها على نطاق واسع فى الجمهورية الشعبية. فالمناخ السياسى فى بكين متوتر، بينما يستعد الحزب الشيوعى الحاكم لنقل القيادة سرا إلى الجيل القادم من القادة، حيث يتوقع أن يصبح نائب الرئيس الذى لم يختبر، شى جين بينج، رئيسا. لذلك، لن يكون من المرحب به التذكير بتغيير النظام السابق ونهاية الأسر الحاكمة. بطبيعة الحال، ليس هناك شىء تخشى منه الحكومة الحالية، على غرار 1912؛ عندما سقطت أسرة تشينج التى أسستها عام 1644 قبائل المانشو التى احتلت الصين من الشمال، على يد حركة ثورية فائقة التنظيم تتلقى تمويلا وتسليحا من الخارج ولها أيديولوجية حاكمة متماسكة تعتمد على القومية الجمهورية.
غير أن الحكومة تواجه بوادر اضطرابات هائلة فى المناطق الريفية. وكان الجانب المظلم لصعود الصين الاقتصادى هو الاتساع المروع فى الهوة بين مناطق الساحل المزدهرة والمناطق الداخلية التى تعانى من الفقر، وانتشار الفساد فى صفوف المسئولين المحليين، مع امتداد الغضب والسخط على نطاق واسع. وتعترف الحكومة بعشرات الآلاف من «الحوادث الجماعية» سنويا، التى قد تتراوح فى أى مكان بين احتجاج حفنة من الأرامل على استيلاء مسئولى المحليات الفاسدين على العقارات فى تمرد مفتوح (مثلما حدث فى قرية ووكان الجنوبية) إلى أعمال الشغب العرقية الدموية، كما حدث فى السنوات القليلة الماضية بين أهالى التبت وفى مقاطعة شينجيانج ومنغوليا الداخلية.
●●●
وبذلك المعنى، فإن تمرد التايبنج الذى كاد يطيح بأسرة تشينج قبل سقوطها بخمسين عاما، هو ما يمثل أقوى التحذيرات للحكومة الحالية. فالتمرد الذى أودى بحياة 20 مليون شخص على الأقل قبل أن يتوقف، ليصبح أكثر الحروب الأهلية دموية فى التاريخ، يدعو أولئك الذين يأملون فى انتفاضة شعبية ربيع صينى الآن إلى الحذر.
وقد اندلع تمرد التايبينج من جنوب الصين خلال أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر، فى فترة اتسمت، كما هو الحال الآن، بالتفكك الاقتصادى والفساد والخواء الأخلاقى. وانتشر الفقر فى المناطق الريفية؛ واستفحل فساد المسئولين المحليين، فى حين كانت حكومة بكين البعيدة تبدو غائبة. وقد اشتعلت الأحداث بسبب النزاعات العرقية الدامية بين الناطقين باللغة الكانتونية الصينية وأقلية الهاكاس على الحقوق فى الأرض. وانضم العديد من الهاكاس إلى طائفة دينية أسسها هونج شيكوان، الذى يعتقد أنه الأخ الأصغر ليسوع المسيح. وعندما وقف مسئولو التشينح المحليين إلى جانب المزارعين الصينيين، ثارت ثائرة الهاكاس وطائفتهم الدينية وحملوا السلاح ضد الحكومة.
ولعل الأمر الملحوظ للغاية والمثير للقلق بشأن تمرد التايبينج أنه انتشر بسرعة وعفوية شديدة. فلم يعتمد على سنوات من العمل «الثورى» التمهيدى (كما هو الحال مع الثورة التى أطاحت بالملكية عام 1912 أو ثورة 1949 التى أوصلت الشيوعيين إلى الحكم). وعلى الرغم من أن أتباع هونج الدينيين شكلوا جوهر التمرد، إلا أنه بمجرد أن تخطت هذه الطائفة الحاجز الجنوبى واتجهت إلى الشمال، حتى انتشرت بين مئات الآلاف فى طريقها، وهى الجموع التى كان لها مآسيها ومظالمها الخاصة، ولم يكن لديها ما تخسره بانضمامها إلى الثورة. وانضوى عمال المناجم المتعطلون، والمزارعون الفقراء، ورجال العصابات الإجرامية، وغيرهم من جميع أنواع المتذمرين ضمن جيش كبير بلغ عدده فى عام 1853 نحو نصف مليون مجند. واستولى التايبينج على مدينة نانجينج فى ذلك العام، وذبحوا سكانها من المانشو بالكامل، واتخذوا المدينة عاصمة وقاعدة لهم لمدة 11 عاما حتى انتهت الحرب الأهلية.
●●●
وكان أطفال المدارس الصينيون فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين يدرسون أن التايبنح هم أسلاف الحزب الشيوعى، ويمثل هونج السلف الروحى لماو. وقد تراجع هذا التشبيه الآن بمرور الوقت، لأن الحكومة الصينية لم تعد ثورية بأى شكل. ومن ثم، فمن المفهوم أن التايبنج، تم تصوريرهم بشكل سلبى فى السنوات الأخيرة، باعتبارهم أهل الخرافة والعنف الطائفى ويمثلون تهديدا للنظام الاجتماعى. وقد ظل الجنرال الصينى الذى قمعهم، زينج كوفان، يعتبر على مدى أجيال، خائنا لأبناء عرقه لأنه ساعد المانشو، لكن هذا الأمر قد تغير الآن. فهو اليوم من أكثر شخصيات الصين التاريخية شعبية، وهو نموذج للولاء الثابت للكونفوشيوسية والانضباط. وكان سحقه للتمرد العنيف اسهامه الرئيسى فى التاريخ الصينى.
وقد تعلمت بكين من دروس الماضى. ونشهد ذلك فى القمع السريع والقاسى لطائفة فالون جونج والطوائف الدينية الأخرى التى تشبه تايبينج، قبل أن تصبح مسلحة. ويمكننا أن نرى ذلك فى عدد «الحوادث الجماعية» اليوم. ووفقا لأحد التقديرات، فقد بلغت هذه الحوادث فى عام 2010، نحو 180 ألف حادث، وهو ما يبدو منذرا حقا، ولكن العدد الكبير فى الواقع يدل على أن المعارضة ليست منظمة ولم تصل (حتى الآن) إلى ما يمكن أن يهدد الدولة. ولا شك أن الحزب الشيوعى الصينى يفضل أن يواجه عشرات أو حتى مئات الآلاف من الحوادث الصغيرة المنفصلة، عن أن يواجه تمردا واحدا يتمتع بالزخم. وأخشى ما تخشاه الحكومة ليس أن توجد تلك المعارضة العنيفة، وإنما الخوف من أن تتوحد.
ويحمل التمرد دروسا للغرب أيضا. فقد كان حكام الصين فى القرن التاسع عشر، كما هم اليوم، مكروهين بشكل عام فى الخارج. وكان المانشو يعتبرون طغاة فاسدين متعجرفين يعرقلون التجارة ويكرهون الأجانب. وكان كل الإعجاب من نصيب متمردى التايبينج، الذين اعتبروا فى الخارج المحررين للشعب الصينى. وكما أوضح أحد المبشرين فى شنغهاى فى ذلك الوقت، «يتعلق الأمريكيون بشدة بالغة بالمبادئ التى قامت على أساسها حكومتهم، وقد نشأوا على رفض التعاطف مع شعب بطولى يقاتل ضد الاستعباد الأجنبى».
●●●
وبينما يستعد السيد شى لزيارة الولاياتالمتحدة، يشكل تعاطف مماثل وجهة نظرنا فى الاضطرابات الحالية فى الصين. ففى نهاية الأسبوع الماضى، حذر عضو مجلس الشيوخ جون ماكين نائب وزير الخارجية الصينى من أن «الربيع العربى قادم للصين»، وكانت النغمة المهيمنة على تغطية الصحافة الغربية أن الحزب الشيوعى يتلقى أخيرا العقاب العادل لقاء فساده، وسوء حكمه فى الريف، وعدم مبالاته بحقوق الإنسان والديمقراطية. ويكمن تحت السطح، على نحو غير معلن عادة، إحساس عميق من الشماتة والرغبة فى رؤية الحزب الشيوعى وقد أطاح به شعبه من السلطة.
ولكن علينا أن نحذر مما نتمناه. فمع كل ازدراء الغرب لحكومة الصين فى القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا هى التى تدخلت لإبقائها فى السلطة عندما أوصلها تمرد التايبينج إلى حافة الدمار فعلا. فقد كان الاقتصاد البريطانى يعتمد بدرجة كبيرة على السوق الصينية فى ذلك الوقت (وخصوصا بعد خسارة سوق الولاياتالمتحدة بسبب الحرب الأهلية الأمريكية فى عام 1861) حتى أنه لا يستطيع ببساطة تحمل المخاطر التى قد يسببها انتصار المتمردين. فقامت بريطانيا بتشجيع أمريكى بتزويد حكومة المانشو بأسلحة وطائرات وضباط الجيش وساعدت فى النهاية على ترجيح كفة ميزان الحرب لصالحها.
وربما لا نكون بعيدين عن الأمر حتى الآن. ونظرا لحالة اقتصادنا المضطربة اليوم، والاعتماد الأمريكى الوجودى تقريبا على تجارتنا مع الصين بوجه خاص، ربما يتساءل المرء: مع إدانتنا المبدئية الكاملة للحكومة الصينية فيما يتعلق بالحقوق السياسية والإنسانية، ولكن إذا كانت تواجه بالفعل ثورة من الداخل حتى لو كنت ثورة يقودها تحالف يطالب بديمقراطية أكبر، فماهو احتمال ألا نجد أنفسنا، فى النهاية، نأمل فى فشل تلك الثورة؟