يمكن رصد المحاور الرئيسية لخطاب التغيير فى المغرب من خلال مؤشرين اثنين: الفاعل الجديد، ومحتوى الخطاب. مباشرة بعد هروب الرئيس التونسى المخلوع فى 14 يناير 2011، وانطلاق أحداث الثورة المصرية فى 25 يناير، برزت فى الساحة المغربية أصوات شبابية جديدة تدعو إلى تغيير عميق وحقيقى. وينحدر المستقلون من هؤلاء الشباب فى الغالب من طبقة وسطى، حيث تلقوا تكوينهم السياسى فى أسر كانت لبعض أفرادها تجارب فى أحزاب يسارية أو جماعات إسلامية أو نقابات، بينما يشكل الجزء الآخر من تلك الأصوات امتدادا لفاعليات إسلامية أو يسارية معارضة، ظلت محرومة لوقت طويل من الفضاءات والفرص المناسبة لتعبير عن مطالبها بشكل صريح. واتخذ هؤلاء الشباب من المواقع الإخبارية المغربية ومواقع التواصل الاجتماعى على الإنترنت منابر لدعوتهم التغييرية، ومنطلقا للدفاع عن مشروعية مطالبهم وحقانيتها. وجاءت هذه الدعوات فى شكل مقالات سياسية فى الغالب، وفى شكل حوارات ودراسات وأبحاث أيضا. وكان لشعار 20 فبراير رمزية مؤثرة جمعت معظم هذه الأصوات، رغم اختلافاتها الأيديولوجية والفكرية، وهو العنوان الذى ارتضاه شباب التغيير لحركتهم التى انطلقت فى العشرين من فبراير 2011 مطالبة بتغيير سياسى عميق يتم فيه تجديد التعاقد بين الحاكم والمجتمع من خلال دستور جديد تكون فيه السيادة للملك والحكم للشعب، إضافة إلى مطالب من قبيل: حل الحكومة والبرلمان، ومحاسبة المفسدين وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والاعتراف بالأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية، ومطالب اجتماعية أخرى. احتل النظام الملكى حيزا كبيرا من نقاش التغيير الذى عرفته الساحة المغربية منذ انطلاق أحداث الثورات العربية، وهو ما أعاد إلى النقاش السياسى المغربى جدية غابت عنه سنوات، خاصة مع طرح قضايا من قبيل: الملكية البرلمانية، إمارة المؤمنين، الملكية والقداسة، طقوس البلاط الملكى، ميزانية القصر الملكى وأصدقاء الملك.
وشكلت طبيعة النظام الحاكم فى المغرب أحد أهم المحاور التى أنجزت حولها دراسات وأبحاث فى الفترة الأخيرة. وتعددت الرؤى واختلفت حول قابليته للإصلاح وتقبل الديمقراطية أداة جديدة لإدارة الحكم والمجتمع.
المغرب أرقام وتقارير
على صعيد المؤشرات الاجتماعية لا يزال كثير من مؤشرات التنمية البشرية فى المغرب دون المتوسط الذى تعرفه مختلف بقع العالم، فنسبة الأمية لمن هم فوق سن 15 سنة تصل إلى 56٪. وفيما يخص قطاع التعليم، فإن نسبة المعلمين إلى التلاميذ فى المرحلة الابتدائية هى فى حدود معلم لكل 27 تلميذا. وللمقارنة، فإن هذا الرقم فى الجزائر هو فى حدود معلم لكل 23 تلميذا. أما فى قطر، فالمعدل هو معلم لكل 11 تلميذا. ويصل معدل إتمام مرحلة التعليم الابتدائى فى المغرب إلى 80٪، مقابل 91٪ فى الجزائر و100٪ فى البحرين.
بالنسبة إلى وضع قطاع الصحة، سجل تقرير البنك الدولى، أن نسبة الاتفاق على الرعاية الصحية من إجمالى الناتج المحلى فى المغرب تبلغ 5.5٪، فى المقابل تبلغ فى الجزائر 5.8٪ وفى جنوب أفريقيا 8.5٪، فيما تصل النسبة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية 16.2٪. أما نصيب الفرد من الإنفاق على الرعاية الصحية، فيعادل فى المغرب 196 دولارا، فيما يبلغ فى الأردن 422 دولارا، وفى الجزائر 330 دولارا، وفى سويسرا 9000 دولار.
تتفاوت الأجور فى المغرب ما بين 1 و1000 بينما لا يقل هذا التفاوت أحيانا عن نسبة 1 إلى 10 فى دول أوروبا. ويحتل المغرب فى مؤشر احترام حرية الصحافة الرتبة 127 من أصل 175 دولة سنة 2010. وفى تقرير البنك الدولى حول مناخ الاستثمار فى الدول لسنة 2010 صنف المغرب متأخرا فى الرتبة 128.
وتؤكد التقديرات أن كلفة غياب الشفافية فى إبرام النفقات العمومية فى المغرب تصل إلى 30 مليار درهم (3.6 مليار دولار) من نحو 130 مليار درهم، أى بنسبة 26٪ من الاستثمارات العمومية ونحو 5٪ من إجمالى الناتج المحلى.
ويقتنع طيف واسع من شباب التغيير بأن النظام المغربى غير جاد فى محاربة الفساد والمفسدين وحماية الثروات الوطنية من النهب، مستدلين على قناعتهم بصمت الحكومة وتجاهلها لكل التقارير الرسمية والمستقلة التى تكشف قضايا الفساد المالى والاقتصادى، أو تدعو إلى كشفه وفتح تحقيقات قضائية بشأنه.
تفاعلية شباب 20 فبراير
تقدم فاعلية شباب حركة 20 فبراير نمطا جديدا من السلوك السياسى الاحتجاجى فى الشارع المغربى، إذ استطاعت مكونات الحركة أن تخرج إلى الساحة المغربية بالكثير من المطالب السياسية التى ظلت عقودا حبيسة بعض الفضاءات الحزبية المغلقة، مع إجماع مختلف التيارات والاتجاهات الأيديولوجية على تلك المطالب، باعتبارها الحد الأدنى. كما حافظت هذه الحركة على سلمية الاحتجاج وعلى قدرتها على الحشد الجماهيرى، وتأثيرها المنتشر فى كل مناطق البلاد. ومما يسجل أيضا لهذه التفاعلية، أنها تمكنت من تجاوز مجموعة من العقبات التى وضعها النظام المغربى، لإفشال الحركة، ومنها العنف الأمنى والمحاصرة واستخدام البلطجة والاعتقالات والمحاكمات، وترويج الشائعات لتشويه الشباب وتجريمهم، أو اتهام جماعة العدل والإحسان وحزب النهج الديمقراطى بالسيطرة على الحركة.
ساهم الحضور الأسبوعى المنتظم لشباب 20 فبراير فى الشارع المغربى منذ العشرين من فبراير 2011 وإلى اليوم، فى تعميق تواصل هذا الفاعل النشط مع المجتمع، وتشجيع الكثير من المواطنين على الالتحاق بالمظاهرات، وكسر جدار الخوف الذى منعهم من الحركة عقودا. وقدمت الشعارات والتظاهرات فى الأحياء الشبعية إضافة نوعية فى هذا الاتجاه، حيث سمع المغاربة شعارات غير مسبوقة فى تاريخ الاحتجاج الشعبى، وغادرت الاحتجاجات أماكنها التقليدية فى الشوارع الرئيسية إلى الأحياء الهامشية والمناطق الفقيرة، كما أن صمود الشباب وتحملهم القمع والتعنيف الشديد من قبل قوات الأمن، ساهم هو أيضا فى رفع مصداقية هؤلاء بين المواطنين.
لا شك أن 20 فبراير قد استفادت من خبرة الحركات الاحتجاجية المشابهة لها فى الوطن العربى، خاصة ما يتصل بإمكانات الفضاء الإلكترونى، وما يتجه من حرية وسرعة ونجاعة، حيث أسس الشباب صفحات فردية وجماعية على «الفيس بوك»، بعناوين وشعارات وصور مطالبة بالتغيير، واستفادوا أيضا من إمكانات موقع «اليوتيوب» فى سياق توثيق المظاهرات والتدخلات الأمنية، وشهادات الضحايا.
رسائل الصيف الساخنة
استمر الحراك الشبابى المغربى طيلة صيف 2011، وفشلت التعديلات الدستورية فى إيقاف سيل التظاهرات التى عمت الكثير من المدن مؤكدة مطالبها الجوهرية.
ويرى محللون أن النظام المغربى لم يضرب المتظاهرين بالرصاص، رغم استخدامه العنف بشكل متكرر، واعتقال العديد من الشباب، لكنه أيضا لم يستجب لمطالب الآلاف من الذين يخرجون إلى الشوارع منذ العشرين من فبراير 2011 إلى اليوم. ويرى هؤلاء أن استعصاء الملكية فى المغرب على التحول إلى الديمقراطية، يرتبط بطبيعة الحكم نفسه وتاريخه ونظرته إلى المجتمع والفاعلين السياسيين، حيث تشكل بنية «المخزن» حاجزا أساسيا فى هذا السياق، إضافة إلى صفة إمارة المؤمنين، التى تضع الملك فوق الدستور وبمنأى عن أى مراقبة أو محاسبة.
يعتبر خطاب التغيير عند الجيل الجديد من الشباب المغربى، عن فهم عميق لقضية التغيير، وإصرار على الانتقال بالبلاد إلى ديمقراطية تقع مع الاستبداد، تمنح للملك حضورا رمزيا وسياديا، وترجع للشعب حقه فى تدبير الحكم.
ترى الأحزاب وبعض الموالين للنظام أن المغرب يعيش بداية تحول ديمقراطى، ولنجاح هذا التحول ينبغى توفير شروط سياسية ومجتمعية ملائمة. فى حين يؤكد الشباب أن فى هذا الكلام إطالة لوضعية الانسداد، وخروجا بالمغرب من قاعة انتظار إلى قاعة انتظار أخرى.
إن استمرار احتجاجات الشارع المغربى وانضمام فئات العاطلين عن العمل وذوى المطالب الاجتماعية الأخرى، واتجاه الغاضبين نحو أساليب جديدة مثل الاعتصام داخل مؤسسات الدولة وعرقلة قطارات تصدير الفوسفات، يجعلنا نقر بوجود تحول نوعى للغضب الشعبى، بينما لا يزال النظام المغربى يراهن على أدواته التقليدية فى مواجهة مطالب التغيير، مثل الاحتواء والالتفاف والاستقطاب، وتفجير الخلافات بين شباب التغيير، والتجاهل، والمعالجات الأمنية الجانبية.
●●●
ويبقى أن نتساءل: هل سيشهد المغرب لحظة يستجيب فيها الملك لضرورات التحول التاريخى؟ أم أن الاحتجاجات ستستمر وتتصاعد قوتها إلى أن تصل إلى درجة اللاعودة؟ أم أن النظام سينجح فى امتصاص الغضب، ويقنع الجيل الجديد مرة أخرى بتأجيل مطالبه إلى المستقبل؟