يبدو أن التعامل الجدى مع مشكلات وقضايا المحليات فى مصر سيكون إحدى الثمار الحقيقية لثورة 25 يناير حيث أولت حكومتا الدكتور عصام شرف الأولى والثانية اهتماما كبيرا بهذا الملف. ولا ريب أن الاهتمام بمشكلات المحليات فى مصر هو الطريق الأمثل للتعامل مع المطالب التى عبر عنها المواطنون، فالتعامل مع قضايا الفقر والعدالة الاجتماعية وكفاءة تقديم الخدمات وخلق فرص عمل حقيقية والاستجابة لحاجات المواطنين، يتطلب إدارة محلية تتسم بالكفاءة والفاعلية والنزاهة. وقد جاء الاهتمام الحكومى بقضايا المحليات فى مصر خلال شهور ما بعد الثورة منصبا على ملفين رئيسيين: الأول هو ملف المجالس الشعبية المحلية، والثانى هو ملف الفساد. وبطبيعة الحال فإن طبيعة الملفين تتماشى مع طبيعة مرحلة ما بعد الثورة، فلم تكن المجالس المحلية القائمة قبل الثورة ممثلة للمواطنين واحتياجاتهم وتتطلعاتهم، بل إنها كانت تعبيرا عن الاستبداد السياسى، كما رزح المواطنون تحت وطأة فساد الأجهزة المحلية لمدة طويلة بشكل أفقدهم الثقة فى إمكانية إصلاح هذه الأجهزة، بل وجعل الشاغل الأساسى للمواطن البسيط هو كيفية إنجاز أعماله من خلال آلية فساد منخفضة التكاليف، وبات الفساد القاعدة إن لم يكن الثقافة السائدة. ●●● وعلى الرغم من حتمية التصدى لمشكلات الفساد والمجالس المحلية، فإن هناك خطورة كبيرة من التركيز على القضيتين بمعزل عن الإطار العام الحاكم لنظام الإدارة المحلية فى مصر، والذى لابد وأن يكون هو المحدد الأساسى للإصلاح. ويشتمل الإطار العام الحاكم لنظام الإدارة المحلية على العديد من الأبعاد. البعد الأول ويتمثل فى مدى الاستقلالية التى ستحظى بها الإدارة المحلية فى مواجهة الحكومة المركزية، فهل سيظل النظام المحلى تابعا فى اتخاذ القرارات الرئيسية الخاصة بتقديم السلع والخدمات، أم أنه سيحصل على الاستقلال، وبأى درجة، ولأى نوع من الخدمات. البعد الثانى ويتمثل فى تمويل المحليات، فالإيرادات المحلية لم تتجاوز 3% من إجمالى الإيرادات القومية خلال العقد الماضى، بل إن الإنفاق الحكومى الأهم على المحافظات المصرية، وبالأخص الاستثمارى والتخطيطى، يتم من خلال الأجهزة الحكومية المركزية. البعد الثالث ويتمثل فى قضايا الموظف المحلى الذى لا تملك المحليات أية مرونة فيما يتعلق بأسلوب تعيينه وترقيته وإثابته ومكونات راتبه وأسلوب مساءلته وعقابه. البعد الرابع ويتمثل فى طبيعة العلاقة المؤسسية بين الأجهزة المحلية المعينة والمجلس المحلى المنتخب، والمحافظ لاحقا إذا ما تم الاتفاق على ضرورة انتخابه، كذلك العلاقات المؤسسية بين الأجهزة المركزية ونظام الإدارة المحلية تلك العلاقة التى لا تقتصر فقط على العلاقة بين الوزارات المركزية ومديريات وإدارات الخدمات، ولكنها ترسم شكلا لأدوار الأجهزة الرقابية المركزية على المستوى المحلى مثل الجهاز المركزى للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية والجهاز المركزى للتنظيم والإدارة، وعدد من الهيئات العامة الخدمية التى تقوم بأدوار تنظيمية ورقابية على المستوى المحلى. هذا البعد يشمل كذلك أسلوب أداء الأجهزة الرقابية لدورها على المستوى المحلى والحاجة لخلق كيانات جديدة. البعد الخامس ويتمثل فى هيكل ومستويات النظام المحلى، والذى ينطوى على مسائل إعادة النظر فى الحدود الحالية للمحافظات والمدن والقرى، والتعامل مع المستويات المحلية الحالية (المحافظة، المركز، المدينة، القرية) بالحذف أو الإضافة أو إعادة التعريف، وهى عملية معقدة يتداخل فيها السياسى والانتخابى مع الاقتصادى والمالى والاجتماعى والعائلى والثقافى. ●●● إن إصلاح الإدارة المحلية لابد وأن يتعامل مع الأبعاد السابق ذكرها فى ذات الوقت. وليس المقصود هنا هو تنفيذ الإصلاح على الأرض بالنسبة لكل الأبعاد فى ذات الوقت. المقصود هو أن تكون هناك رؤية وإستراتيجية لإصلاح نظام الإدارة المحلية فى مصر تتعامل مع كل الأبعاد، وتمثل إطارا حاكما لصياغة القوانين والمراسيم وتنفيذ الإصلاحات وفقا لأسلوب تدرجى. أن شمولية التعامل مع قضايا الإدارة المحلية تستند إلى استحالة الفصل بين أبعاد النظام المختلفة. فالحديث عن انتخابات محلية نزيهة ومجالس محلية ممثلة للمواطنين هو ضرورة فى حد ذاته، ولكن العائد لن يكون مجديا إذا ما لم يتم تحديد أدوار هذه المجالس، هل ستكون تنفيذية أم ستنحصر فى الرقابة والمساءلة، وما هى علاقاتها مع المحافظ إذا ما تم انتخابه. تلك القضايا لا يمكن حسمها دون التعامل مع كل أبعاد النظام المحلى. الأمر نفسه ينطبق على الفساد. التصدى للفساد على المستوى المحلى واجب وطنى محمود بلا شك، ولكن الأسلوب يتوقف على الأبعاد الأخرى. فمدى استقلالية المحليات وأهمية الانتخابات كآلية للرقابة والمساءلة بالنسبة للمجلس المحلى أو المحافظ، تؤثر فى طبيعة أداء الدور الرقابى، كذلك فإن الرقابة على المستوى المحلى لها علاقة مباشرة بالتشريعات الخاصة بالموظف المحلى والترتيبات المؤسسية. فإذا ما تم الإتفاق على استحداث أجهزة رقابية وتفتيشية على المستوى المحلى لها الضبطية القضائية، هل ستكون مستقلة؟ وهل هى مستقلة بالنسبة للأجهزة التنفيذية المحلية أم بالنسبة للأجهزة المنتخبة؟ وما هى علاقاتها بالأجهزة الرقابية المركزية الرئيسية؟ هل سيكون دورها مكملا أم هو إحلال؟ هل من الأفضل استحداث هذا الكيان أم الاستثمار فى الأجهزة الرقابية الحالية وتطوير ادائها بشكل عام. حيث إن الفساد على المستوى المركزى قد يكون أكثر فجاعة مقارنة بالمستوى المحلى. كذلك فإن قضية تعيين أم انتخاب المحافظ هى الأخرى لابد وأن تحسم ليس فقط من خلال دراسة مزايا وعيوب الانتخاب والتعيين، ولكن لابد من حسمها فى ظل الرؤية المستقبلية لنظام الإدارة المحلية فى ابعاده المختلفة. إن التعامل بشكل جزئى أو فردى مع عدد من قضايا الإدارة المحلية فى مصر سيؤدى إلى نتائج محدودة ومتواضعة، بل إنه قد يعوق إمكانيات الإصلاح الشامل للإدارة المحلية فى المستقبل.