حين يطرح الإسلام السياسى سؤال الهوية الدينية للمجتمع أو الدولة فهو يحددها بطريقته الخاصة، فالمجتمعات أو الدولة المسلمة ليست التى يدين أفرادها أو أغلبيتهم بالإسلام كما هو متعارف عليه تاريخيا، بل تصير صفة الإسلامية رهن بالحاكمية: أى بتطبيق الشريعة والاحتكام إليها. فمجتمعات المسلمين ودولهم لا تصير إسلامية لمجرد كونهم مسلمين، بل لابد من الحاكمية التى تعنى لدى الإسلام السياسى تطبيق الشريعة، فليس الصواب ما تراه جماعة المسلمين صوابا كما هو مستقر (وفق قاعدة: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، أو قاعدة: لا تجتمع أمتى على ضلالة)، بل الصواب ما تراه الشريعة صوابا. على أن الشريعة فى الإسلام السياسى ليست نسقا مفتوحا للاجتهاد وتراكما لخبرات تاريخية قابلة للتجديد وإنما هى نسق مغلق متعال غالبا ما تقدم باعتبارها أحكاما وحدودا قطعية نهائية صارت أو معظمها ثابت غير قابل للاجتهاد.. الشريعة ليست ما اجتهدت فى فهمه المجتمعات المسلمة طوال تاريخها وما تعيشه أو تعيش فى ظلاله، بل هو تصور سابق مرهون بتصورات الإسلام السياسى نفسه، إذ إن أى تعريف له أو تحديد لطبيعته محل طعن حتى ولو كانت المؤسسات الدينية وعلماء الشرع. ويظهر ذلك فى جمود معظم تيارات الإسلام السياسى فى قضايا كانت محل تطور واجتهاد سياسى تاريخى مثل رفضهم لمبدأ المواطنة تفضيلا لمبدأ أهل الذمة والجزية، أو حد الردة أو غيرها من الأمور التى تم التوافق عليها قبل أن يعيد الإسلام السياسى طرحها مجددا. وطالما كانت هوية المجتمع والدولة غير محسومة، وطالما كان إسلام المجتمع والدولة محل تساؤل بل شك وربما طعن عند الإسلام السياسى، فإن الدعوة الإسلامية تعود فريضة كما كانت أول ظهور الإسلام! تعود لا كوسيلة للتذكرة والتنبيه أو للتأكيد على ما اندثر أو فات من أمور الدين بل كآلية لأسلمة المجتمع والدولة ورد الناس إلى الدين مرة أخرى بعد أن انصرفوا عنه وربما خرجوا منه!. أعاد الإسلام السياسى «الدعوة» ليس لغير المسلمين بل وجهها هذه المرة للمجتمع المسلم نفسه، وصارت فى منطقها العميق تتعامل مع هؤلاء المستهدفين بها كما لو لم يكونوا مسلمين من قبل.. فصار هناك حديث عن وجوب الدعوة، والالتحاق بالدعوة، وتنظيم الدعوة، ومصلحة الدعوة.. كما لو كانت «الدعوة» فى مجتمع لم يعرف الإسلام من قبل! ثمة مفارقة فى أن جهود «الدعوة» عند معظم تيارات الإسلام السياسى إنما تتجه للمسلمين وليس لغيرهم! غالبا للمخالفين معهم من داخل الإسلام كالصوفية مثلا، بل إن معارك التيار الوهابى منذ نشأته، بما فيها حروبه، كانت داخل المجتمع المسلم! بدأت بالصوفية وامتدت للشيعة وتكاد تقتصر على المسلمين! ومن سمات الإسلام السياسى أنه يدمج قسرا بين الدينى والسياسى ولا يعترف بأى تمييز بينهما على خلاف التجربة التاريخية الإسلامية التى عرفت نوعا من التمايز بين الدينى وبين السياسى. والتمايز الذى نقصده والمستقر تاريخيا ليس التمايز بالمنطق العلمانى الحديث الذى يفصل بين الدينى والسياسى فيحدد للدين مجالا خاصا لا يتجاوزه، بل هو التمايز بمنطق يستدعى اختلاف طبيعة كل من الدينى والسياسى وأدواته واكراهاته بما يفرض خلق تمايز يحفظ للدين كليته وإطلاقيته ويبعده عن السياسى ونسبيته وتغيراته وعن توظيفاته أيضا. وهو ما وجدناه فى الخبرة التاريخية الإسلامية التى ميّزت بين أهل السياسة والسلطان وبين أهل الدين والعلماء. وربما اتضح هذا الدمج فى أفكار أبى الأعلى المودودى وسيد قطب لكنه بدا أكثر تأثرا بالثورة الإيرانية وولاية الفقيه التى أقام عليها الخومينى دولته الإسلامية.