أخمن أنك تشعر، وبصورة متزايدة ومطردة، أن الأمور ليست على ما يرام فى بلادنا. تحاول أن تطرد هذا الشعور. أن تكبته وتتجاهله. تقول فى نفسك: هذه طبيعة المراحل الانتقالية وميراث ثلاثين عاما من الركود والانهيار لا يمكن تفكيكه فى شهور. تتابع الصحف وبرامج التوك شو وتطاردك أخبار الانفلات الأمنى والتضخم. تقول هذا عابر و«بكرة تتعدل». تقف عند حديث مطول للأستاذ هيكل فى الأهرام تحت عنوان «الوطن فى محنة». العنوان يصدمك. محنة؟. كيف؟. المفترض أن الوطن كان فى محنة ثم تجاوزها. تقول فى نفسك أن الأستاذ يبالغ فى التحذير لينبه الغافلين. تقرر أن تقاطع برامج التوك شو لأسبوع أو أسبوعين. تختار أن تمر على الصحف بشكل عابر وأن تكتفى بكتابك المفضلين الذين تثق فى أن لديهم جرعة كافية من الأمل والثقة فى المستقبل. تهرب من الشأن العام إلى أمورك الشخصية علك تجد مخرجا. يظل الشعور الممض يحاصرك: الأمور ليست على ما يرام.
دعنا نتتبع معا جذور هذا الشعور المخيف بأن الأمور تسوء. أنت لا تثق فى المستقبل لأنه أصبح مفتوحا على كل الاحتمالات. ولا تثق فى السياسيين لأنهم أنانيون. ولا تثق فى الإعلاميين والمثقفين لأنهم «بتوع كلام». ولا تثق فى الإخوان لأنهم مفرطون فى الثقة بأنفسهم بصورة مقلقة!. وإذا كنت قبطيا فأنت لا تثق فى المسلمين لأنهم لا يشعرون بمشاعر الأقلية. وإذا كنت مسلما فأنت لا تثق فى الأقباط لأنهم يشعرون بمشاعر الأقلية! وأنت لا تثق إذا كنت مدنيا فى العسكر لأنهم عسكر، ولا تثق إذا كنت عضوا فى المجلس العسكرى فى المدنيين لأنهم لا يقدرون المصلحة العامة ولا يتحملون المسئولية. وإذا كنت من الجمهور، فأنت لا تثق فى النخبة لأنها مستفيدة فى كل الأحوال، وإذا كنت من النخبة فأنت لا تثق فى الجمهور لأنه غوغائى. وإذا كنت رجل أعمال فأنت لا تثق فى حالة الأمن أو السياسة، وإذا كنت رجل أمن، فأنت لا تثق فى المجتمع المدنى الممول خارجيا، وإذا كنت ناشطا أو مدونا فأنت لا تثق فى أى شىء. والمحصلة أنه، أيا كان موقعك، فأنت لا تثق فى أحد سوى ذاتك.. وحتى هذه صارت محل شك!
●●●
الثقة أو بالأحرى غيابها قد تكون إذن مفتاحا لفهم المشهد الحالى. تأمل هذه الكلمة للحظة: الثقة. إنها ليست كلمة بسيطة. حقيقة الأمر أنها العمود الفقرى الذى ينتصب عليه جسد المجتمع، أى مجتمع. هى الصمغ الذى يربط أجزاءه التى تصير بدونه أشلاء ممزقة ومتنافرة. إنها القيمة الاجتماعية الأسمى والأشمل، وغيابها فى السياسة والمجال العام، ما هو إلا انعكاس لغيابها فى المجتمع.
الثقة فى أبسط تعريفاتها هى تصديق حكم يصدره الآخرون على شىء ما، أو تصديق التزامهم بأمر من الأمور، وإقامة منظومة معينة من العلاقات بناء على هذا التصديق. مثلا: الأصل أن الأطفال يثقون فى الآباء، وفى أن ما يقولونه هو الصواب، وأنهم سيفعلون ما يعدون به. من هذه البذرة الصغيرة تنمو علاقات الثقة وتمتد من العائلة إلى مختلف الدوائر الاجتماعية. وبقدر ما يزيد رصيد الثقة فى «البنك المركزى الاجتماعى» بقدر ما تدور تروس المجتمع وتتحرك عجلته إلى الأمام.
على أساس من الثقة قام النظام الاقتصادى كله. النقود نفسها عبارة عن صك يكتسب أهميته من ثقة الناس فى أنه قابل للتداول وللتحويل إلى سلع وخدمات. بغير هذه الثقة تصبح النقود مجرد قطعة ورق. وبالمثل، فإن الدستور يصبح مجرد خرقة بالية، إذا لم تتوافر الثقة لدى مختلف الأطراف بأنه يمثل وثيقة ناظمة لعلاقات السلطة، وأن الجميع يقبل به ويحترمه. وقل مثل هذا عن مرفق العدالة الذى إذا انهارت الثقة فى نزاهته المطلقة انهار البنيان الاجتماعى، وظهرت النزعة إلى المحاكم العرفية وإلى «أخذ حقنا بأيدينا». وهكذا فى كل المرافق ومناحى الحياة، البسيط منها قبل المركب. فأنت تذهب إلى عملك واثقا من أن المترو سيأتى فى موعده، وتؤدى عملك واثقا من أنك ستتقاضى راتبا فى آخر الشهر. وتؤديه بالاتقان المطلوب، لأنك تتوقع من الآخرين، الذين تعتمد على خدماتهم، أن يفعلوا الشىء نفسه.
ماذا يحدث إذا انقطعت هذه الحلقة؟ عد للوراء شهورا. حاول أن تتذكر شعورك (إذا لم تكن ممن كانوا فى التحرير) فى ليلة التاسع والعشرين من يناير الماضى. حاول أن تفسر هذا الشعور القبيح بالخوف، ليس من السلطة وما يمكن أن تفعله، ولكن أيضا وربما فى الأساس من بعض مكونات المجتمع. الطبقتان الوسطى والعليا انتابتهما حالة من الهلع. توقع البعض «غزوات» من جيوش العشوائيات للهجوم على البيوت للسلب والنهب، وربما سبى النساء! وقف الشباب والرجال فى الشوارع مسلحين بالعصى و«المقشات»، وصاروا يتنادون كل فترة «جايين من هناك.. الحق يا جدع». هكذا صدقنا بسهولة أن المجتمع يمكن أن يرتد إلى حالة بدائية تماما بين يوم وليلة. التفسير الوحيد لهذا التفكير هو أن رصيد الثقة بين الجماعات التى تعيش متجاورة فى الوطن الواحد منعدم. عندما تتآكل الثقة، يتقوقع الفرد داخل ذاته. يستحيل كائنا أنانيا هدفه حماية نفسه وتأمين معاشه. يكون مستعدا لخطف أى شىء، وانتزاع أى مكسب. يتحلل من الواجب لأنه لا يثق فى أن الآخرين يقومون بواجبهم تجاهه.
●●●
السياسة ما هى إلا حاصل ما يعتمل فى المجتمع من تفاعلات وما ينتجه من علاقات. السياسة التى نمارسها تشبهنا. تشبه بيوتنا وشوارعنا وعلاقاتنا فى العمل والمنزل. تشبه الأشياء الصغيرة التى تمر بنا كل يوم. وكلما نظرنا إلى وجه السياسة فى بلادنا، نراه كما هو الحال فى أى مجتمع انعكاسا أمينا لصورة البشر والعلاقات بينهم، بكل ما تنطوى عليه من انعدام للثقة بين الجماعات والأفراد، وعجز شبه كامل عن المبادرة والقيادة.
فى أكثر صورها بدائية تتولد الثقة من منطلق فكرة «واحدة بواحدة». أى إذا فعلت أنا كذا، أتوقع أنك ستفعل كيت. وهى أقدم صور العلاقات الإنسانية وأكثرها بساطة ووضوحا فى الوقت نفسه. وفى الحالة المصرية، فإن الناس تنتظر أن يحدث ما يشعرها بالثقة من جانب النخبة السياسية الحاكمة، عسكر ومدنيين. المجتمع كله فى حالة ترقب وتوقع. ينتظر الخطوة الأولى من نخبته. يريد أن يصدق حقا أن النظام القديم سقط، خاصة أنه يرى فى أبسط الأشياء من حوله ما يؤكد له أن النظام، بعلاقاته وقيمه وأفكاره، ما زال قائما راسخا. الناس يريدون أن يثقوا كذلك فى أن القيادة الجديدة، من السياسيين المدنيين والعسكر، قادرة على مشروع البناء، بكل ما يتطلبه من كفاءة وقدرة على القيادة واستعداد للتضحية. الخطر كل الخطر أن يطول الانتظار، فرصيد الثقة بين مختلف مكونات المجتمع يتآكل بمعدل مطرد، وهناك شواهد على ذلك لكل ذى عينين فى أوضاع السياسة والاقتصاد والأمن ومعيشة الناس، بما لا يحتاج إلى تفصيل. وعند نقطة ما قد نرتد لا قدر الله إلى مرحلة بدائية من انعدام كامل للثقة فى أى مؤسسة أو جماعة أو فرد أو منظومة اقتصادية أو اجتماعية. وساعتها لن نشعر، أنت وأنا، بأن الأمور ليست على ما يرام فحسب، ولكن سنشعر أن الأمور غير قابلة للإصلاح، وهاتان حالتان نفسيتان جد مختلفتان. الوقت ثمين، ونافذة الفرصة توشك أن توصد. وكما قال أحد الرؤساء الأمريكيين ذات مرة: «إذا لم يكن الآن، فمتى؟ إذا لم يكن نحن فمن؟».