هناك فى أحد رفوف مكتبتى كتاب ضخم من 575 صفحة للدكتور حسن فتح الباب عنوانه «ثورة الجزائر فى إبداع شعراء مصر»، وقد ضمّ ما كتبه سبعون شاعرا مصريا فى موضوع ثورة التحرير الجزائرية، ولعل ما جعلنى أتذكر هذا الكتاب الآن هو ما كتبه الدكتور فتح الباب فى أول كتابه، وتحديدا جملة «من أجيال تبحث عن البطل والأمل.. إلى أبطال ورموز كانت الأمل والمثل» ، إذ إنه بعد خمسين سنة ما زالت الأجيال العربية تبحث عن صورة البطل وفسحة الأمل فى تقلبات أحداثها السياسية وتتبادلها فيما بينها، وها هم شعراء الجزائر يؤرخون بدورهم لثورة 25 يناير، ويدونون معها تاريخا شعريا مشتركا جديدا، ربما سيجمع هو ايضا بعد خمسين سنة فى كتاب، ولعلى سأضع الاصدار الثانى بجانب الإصدار الأول يومها. لكن بانتظار هذا اليوم، سأستعرض لأول مرة ربما ثلاث تجارب مختلفة لثلاثة شعراء ممن كتبوا عن هذا المعطف التاريخى فى حياة الشعب المصرى:
رابح ظريف: أربعة مشاهد من ميدان التحرير
رابح ظريف شاعر جزائرى اثبت تميّزه منذ بداياته، وتكاد تكون قصيدته «الليل يغيّر رأيه فى الظلام» أشهر ما كتب فى الثورة المصرية، ليس لأنه تم تداولها فى مصر فحسب، إنما لكونها بالإضافة إلى هذا تمتاز بصياغة مميزة ومختلفة تطرقت لرؤية عميقة للميدان وما جرى فيه من أحداث، حيث يقول مطلعها:
«مساء
وقد غيّر الليل آراءه فى الظلامْ
سمعَ النَّاسُ أصواتَهم فى الشَّوارع
فالْتَحَموا فى الزِّحامْ
كأُغنيةٍ لمْ يجدها المُلحِّنُ أو مثلَ تسبيحة
لم يقلها الإمامْ»
يعلن الشاعر فى البداية تمرّد الطبيعة على نفسها، وتمرّد الشعب المصرى على الصمت المحيط به، فقد سمع الناس أصواتهم فتلاحمت جموعهم، وقد كان استعمال الشاعر لمفردة «تلاحم» بليغا جدا لتصوير مدى انسجام الشعب المصرى بكل اطيافه مع بعضه وهو ما سوف يؤكده فى نهاية القصيدة، بعد أن يكرر فكرة ثباته منذ البداية على موقفه فى المطابة بالتغيّير.
وقد قسم الشاعر قصيدته إلى أربعة مشاهد كونية مثل فيها شرائح المجتمع المصرى المختلفة والتى تلتقى كلها فى نقطة آخر كل مشهد تتمثل فى أمنية واحدة هى الحصول على كرامتها وإنسانيتها وتغيير أوضاع حياتها ، فبدأ بالمرأة التى يقول عنها:
«وفى أوّل الأمرِ، مرَّ على يُتْمِهِم قمرٌ.. فبكى، توقَّفَ حينَ رأى امرأة فى شوارع مصرَ تكلِّمهُ من ثلاثين عاما، تُحَدِّثهمْ عن شتاءٍ سيأتى.. وفى ليلهِ سوفَ ينكسرُ اللَّيلُ. كانت فتاة.. ولو أنَّ ساعدَها كلَّ.. كاهلها كلّ.. كلّت خطاها ولكنّ فى شفتيها نداء قديما»
هذه الشخصية هى المرأة التى لم تيأس من الحديث عن حلمها ومن تتبعه، إنها فى آخر المشهد تخجل حتى القمر، وهى كناية عن المرأة المصرية القوية الصامدة التى أخجلت العالم بمشاركتها الفعالة فى ثورة بلدها.
و ينتقل الشاعر فى المشهد الموالى إلى شريحة البسطاء متمثلة فى ذلك النادل الذى يعمل فى شارع العتبة ويشتكى من حياته ومن النظام، فيقول الشاعر:
«ومن بعدُ
فى شارعِ العتبةْ..
نادلٌ يتحدّثُ فى سِرِّه للحمامْ
وحتّى لسينيّةِ الشَّاى
يرفعُ شكواهُ ضدَّ النِّظامْ
وفى ليلة متعبةْ
قامَ من سرّه/ ثمّ فتّشَ أحلامَه».
هذا النادل فى بقية المشهد يحلم بما سيأتى ويرى أن استمرار الوضع سيملأ ما حوله دما وعذابا وستختفى مصر لأن مصر هى شعبها القابع تحت الظلم والفساد، فيستيقظ النادل ويقرر أن يكف عن الشكوى للصينية سرا، ويرفع صوته بالنداء حتى تسقط الدكتاتورية.
أما فى المشهد الثالث فينقلنا الشاعر إلى نوع من الفانتازيا، لأنه يروى حكاية الرجل الذى يعتقد أنه جنين فى بطن أمه، ولربما هى كناية عن طيبة الإنسان المصرى الذى وصف فى القصيدة بكونه:
«فتى لا يفرّقُ بين السَّكاكينِ والوردِ فى كفِّه
يحسبُ الشُّرطةَ المركزيّةَ
فى حيِّه ياسمينا»
لقد كان لا يعرف مدى قوته قوة الشعب وكان يستضعف قدرته على التغيير، غير أنه يوقن اخيرا أنه يملك سلطة كبيرة فيخرج عن صمته وينقل كينونته من مرحلته الجنينية الموصوفة ب«الكفن» إلى مرحلة الرجولة «الحياة»، ليثبت بذلك طولته مناديا آخر المشهد: «أريد التحرّر من كفنى يا بلادى/ أريد التحرُّرَ من جبروتِ النِّظامْ».
وفى آخر القصيدة يقدم لنا الشاعر رابح ظريف مشهدا ختاميا لأجمل الصور الإنسانية التى أفرزتها الثورة المصرية، إذ يتحدث عن هذا «التلاحم» بين افراد الشعب المصرى على اختلاف أطيافه:
«وما بين شيخين يقتسمان العمارةَ منذُ ثلاثينَ عاما
تفرَّق هذا المكانْ
تفرَّقتِ الخطواتُ التى تتعاقبُ نحوَ الكنيسةِ
والخطواتُ التى
تتزاحم وقتَ الأذانْ»
فالشخصيتان فى بقية المشهد ههما شيخان أحدهما مسلم والآخر مسيحى: إنهما يقتسمان الأجراس والأذان والذهاب إلى الكنيسة والمسجد، إنهما يتناولان القهوة معا ويفعلان كل شيء معا وحين يموتان يشكلان معا نهر «النيل»، رمز مصر وأسطورة الخصب:
«ولما استفاقا معا
قرّرا أن يكونا هما النيلَ
ماتا وبينهما جملةٌ واحدَة
«غدا سنكونك يا نيل
حتى سقوط النظام».
بوزيد حرز الله.. رسالة قاسية إلى مبارك
يعد بوزيد حرز الله من الشعراء المهمين فى المشهد الثقافى الجزائرى ومن القلة المقتدرة فى البناء السيميائى للصورة الشعرية، وقد اختار أسلوب الهجاء فى قصيدته الكلاسيكية التى نشرها فى أول أيام الثورة لمشاركة الشعب المصرى نداء «ارحل يا مبارك»، ووجه رسالة قاسية إلى هذا الرئيس الذى لم يحترم شعبه، وقد كان مطلعها:
يا أنت يا غير المبارك سر إلى حيث القمامة
والحق بزين الهاربين هناك (يعطيك) السلامة
واترك لمصر رجالها يحيون للوجه ابتسامة
وقد جاء فى القصيدة رغم قصرها عدد من الأبيات والصور التى عبّر بها الشاعر عن موقفه المساند للشعب المصرى وعن احتقاره للنظام الدكتاتورى، إذ يقول مثلا:
آن الأوان لكى تذلّ ويرتدى الشعب الكرامة
ويقول فى موضع آخر مستعملا لفظة «دماغك» التى بها إيحاء للهجة المصرية:
وادفن دماغك فى بلاط الخزى يا صنوَ النعامة
وفى آخر القصيدة الهجائية يوجه الشاعر حرز الله سؤالا لمبارك مستعملا صيغة التصغير لاسمه إمعانا فى التصغير من شأنه والتقليل من هيبته، إنه يسأله عن ضميره وعن أعماله يوم يلاقى خالق الكون:
ماذا ستفعل يا (مُبيرك) عند أهوال القيامه؟؟
ماذا ستفعل حينها؟ لا لن تلاقيك السّلامة
فالله يعلم ما تخفّى من أكاذيب الزّعامة
لقد أراد الشاعر من خلال هذه القصيدة القصيرة أن يشارك فى هتافات الشعب المصرى، وقد انتهج اسلوبا هجائيا خطابيا وحماسيا فكانت دليلا حيا على هذا التضامن العميق والإنسانى والعفوى بين الشعب المصرى والشعب الجزائرى.
محمد الأمين سعيدى.. مغازلة
على الطريقة الفرعونية
محمد الأمين سعيدى من الشعراء الشباب المبدعين فى الجزائر، وقد اختار اسلوبا حداثيا للتعبير عن تضامنه مع الثورة المصرية عبر قصيدته «أرث كتاب الموتى.. وأغنى»، وهو عنوان لابد أن يستوقف العابرين، من حيث استحضاره لإرث مهم من الحضارة الفرعونية وهو «كتاب الموتى»، الكتاب الأقدم فى التاريخ وأحد أجمل النصوص فى وصف رحلة الموت، ومع أن هذا الرمز قد يكون سوداويا بعض الشىء إلا أن هناك استدراكا له بجملة «وأغنى» لتكون المفارقة هنا ذات معنى أجمل وأعمق.
وتبدأ القصيدة بتغزّل الشاعر بمصر الحبيبة المتألمة قائلا:
«للوجعِ الذابلِ فى عينيكِ صلاةُ الغائبِ
لهُ كلُّ بكاءِ الأرضِ
وحزن الشجرِ النبويِّ المورق فى الروحِ
له بركاتُ الشيخِ الأكبرِ
وملائكة تبصرُ أنهارَ شقاوتنا»
إن هناك صلاة ما ترددها الشفاه رغم البعد من اجل العيون المصرية الجميلة، وهى صلاة لتقاسم البكاء والحزن المخيم فوق المدينة الجميلة الملهمة والمعشوقة المصابة فى أمومتها:
من المرجح أن تكون هذه القصيدة قد كتبت أثناء الثورة، تحت تأثير عمليات التقتيل التى طالت المتظاهرين فإيحاءات الحزن كبيرة والتلميح للموتى وللحرب موجود فى أكثر من موضع: «إنى فى أرضٍ دائرة كالحربِ أرى مدنا تتساقطُ/ وعذاباتِ الإنسانِ البائسِ من وهرانَ إلى قاهرةِ الأعداءِ»
غير أن هناك تفاؤلا صغيرا بنهاية قريبة لهذا الدمار، مادامت القاهرة لا تزال تقهر اعداءها ولعل هذا التفاؤل يكاد يتجسد كلية فى كلمة «و... أغنى» فقط لا غير فى القصيدة كلها، سواء كان هذا بشكل واع أو بشكل لا واع لدى الشاعر الذى قرر عبر شعره أن يقدم فروض محبته لمصر الجميلة على طريقته الخاصة، مثلما اردت على طريقتى الخاصة أيضا أن انقل هنا ثلاث صور مختلفة تنوعت بين الفلسفة والهجاء والغزل، لكنها اجتمعت كلها فى ميدان التحرير لتكون ضمن «ألبوم ثورة 25 يناير».