تمثل منطقة الساحل الشمالى الغربى منطقة شديدة الخصوصية جغرافيا وتاريخيا، إذ لا يمكن أن تدرس بمعزل عن الظهير الصحراوى مكانيا ولا عن تتبع العلاقة المصرية الليبية خاصة عصر الرعامسة فضلا عن الحوار بين الساحل والداخل تاريخيا. وهو ما يمكن رصده على النحو التالى: أولا: على الرغم مما زخرت به الآثار عن قبائل التحنو والتمحو الليبية إلا أن أغلب الآراء تكاد تجمع على أن ثمة تمايز بين العنصرين من الناحية المكانية يتبدى فى حصر التحنو فى المنطقة الواقعة غرب الدلتا وامتدادها جنوبالفيوم، فى حين تمتد منطقة التمحو نحو النوبة لأبعد من وادى السبوع أو ربما الجندل الثالث. وهو ما أفضى للإشارة إليهما فيما بعد كشعب واحد يعيش فى تجمعات بصحراء مصر الغربية، مع وجود تمايز عرقى بين العنصرين لاحظه المصرى بجعل التحنو الأقرب إلى الأصول المصرية. حيث زخرت بهم واحات صحراء مصر الغربية ومنطقة مراقية (مارماريكا) بالساحل الشمالى الغربى حاليا، والوارد أقدم ذكر لها وللوبيين عند ابن عبدالحكم مشيرا لكونهما «كورتان من كور مصر الغربية مما يشربان من ماء السماء ولا ينالهما النيل».
ثانيا: رغم أن السمة الغالبة على العلاقة المصرية الليبية كانت عسكرية الصبغة إلا أن البعد الإقتصادى لا يمكن إغفاله، فالمصادر المصرية تشير للمجموعات الليبية غرب مصر بكونها موردا هاما للماشية سواء كغنائم مثلما فى حملات سنفرو وساحورع. أو بقدومهم بأعداد كبيرة وبآلاف من رؤوس الماشية فى تحرك استيطانى عبر المناطق الساحلية نحو الدلتا الغربية، للحفاظ على ثروتهم الحيوانية وتجارتها وكذا الكروم ومنتجاتها التى كشفت عنها دراسات فخار المنطقة.
ثالثا: إن السياسة الجنوبية لمصر خلال الأسرة السادسة قد سلطت الأضواء على عنصر التمحو الذى يراه البعض الأصل الأول لأمازيغ الشمال الأفريقى، والذى لعب دورا فى الوساطة التجارية بين مصر والنوبة. بعدما إنساح فى التحنو مستوليا على مراعيهم وأراضيهم الساحلية. مما يفسر الحملات المصرية المتتالية ضدهم منذ نهاية الدولة القديمة وحتى الدولة الحديثة.
رابعا: منذ منتصف الألف الثانى ق.م عندما ثار بركان جزيرة ثيرا وتأثرت حركة التجارة فى البحر المتوسط وما استتبعها من تحركات بشرية نحو السواحل المأهولة كالساحل السورى وقبرص وكريت، فإنه لا يستبعد توجههم أيضا إلى الساحل الشمالى الليبى. لتبدأ من هناك مرحلة جديدة من المواجهة مع كل العناصر الأصلية والوافدة ميزت السياسة المصرية فى الساحل الشمالى وتحديدا فى عصر الرعامسة. حقيقة أن سيتى الأول قد مواجهة الزحف الليبى نحو مصر عبر الساحل الشمالى، بيد أن تسجيل تلك المواجهة بالجدار الشمالى لقاعة الأعمدة الكبرى بالكرنك ليدلل على كون التعايش شبه المستقر وفق مفردات السيادة المصرية قد اتسم بإفتراض النصر على أقوام أجنبية لا تعرف شيئا عن مصر ومعهم الزعماء الليبيين من التحنو وربما المشوش.
خامسا: إن رد فعل رعمسيس الثانى يؤكد حتمية السيطرة على الشريط الساحلى الشمالى الغربى وإحكام الرقابة على سكانه من العناصر الليبية بما فيها عنصر الريبو (الليبو) الطامحة للاستيطان ببناء سلسلة من المراكز بلغت حوالى ستة عشر مركزا تنتظم فى مجموعتين. تمتد الأولى منهما بطول حافة الصحراء الغربية بالدلتا من منف وحتى ساحل البحر شمالأ لتبدأ المجموعة الثانية ممتدة غربا بطول الساحل الشمالى الغربى والتى تحتل معبرا غربيا يوازى المعبر الشرقى المعروف باسم «طريق حورس»، فى توازن استراتيجى يتفق ومقتضى الأوضاع السياسية. ومن الصعوبة بمكان التسليم بالرأى أن جل هذه المراكز كانت تمثل حصونا عسكرية إذ أن هذا الأمر من شأنه أن يغبن أمرين هامين آنذاك وهما المراكز التجارية والتوطن. إذ لم يتأكد بالدليل الأثرى سوى مركزين بنيا كحصن عسكرى أولهما كوم الأبقعين من المجموعة الأولى والتى تبدأ مراكزها الاستيطانية بكوم ابو بللو (70كم شمال غرب القاهرة) على رأس الطريق القديم بين الدلتا ووادى النطرون وكوم الحصن (29كم جنوب شرق الأبقعين) وكوم فرين (5كم من مدينة الدلنجات) وسلفاجو الواقعة ل2 كم غرب كوم فرين، والثانى البرنوجى (26كم جنوب شرق الأبقعين) الواقعة بدورها على حافة الصحراء 5 كم جنوب شرق حوش عيسى. والتى بنيت كحصن دفاعى فى المنطقة بعكس المواقع الأخرى التى حصنت كمراكز استيطانية تقتضى الحماية، والتى يبقى منها فى هذا العرض كوم ابو جرح (النوبارية) ثم كوم الطويل (10كم جنوب شرق عزبة أبوشوشة) وحوالى 20 كم (حنوب شرق كوم الادريسى: ماريا القديمة) لنصل إلى راقودة (رع قدت). حيث تبدأ المجموعة الثانية من المستوطنات على الساحل الشمالى بمنطقة الغربانيات (50كم شرق العلمين)، ويليها ب10كم موقع البوردان ثم خشم العيش (23كم شرق العلمين). ويلى ذلك العلمين حوالى 98 كم من الإسكندرية حتى نصل إلى حصن زاوية أم الرخم الواقع على مبعدة 300 كم غرب الإسكندرية وحوالى 25 كم إلى الغرب من مرسى مطروح. والذى يمثل مع ميناء باطا (موقع جزيرة اليهودى) ذروة سنام معرفتنا بالتدابير المصرية بالساحل الشمالى على عصر الرعامسة. فحصن أم الرخم رغم صبغته العسكرية ووقوعه تحت قيادة حاكم عسكرى يدعى رع نب وحامل لقب قائد الحامية، إلا أن كم المخازن المكتشفة فى جنباته ونمط الأوانى ذات الطابع الكنعانى ربما تشير إلى كونه محطة أو مركزا تجاريا لتجارة حوض البحر المتوسط العابرة من كريت إلى الساحل الشمالى الأفريقى قبل رسوها شرقا ووصولها لأسواق منف عبر دلتا النيل.
سادسا: رغم الاستيطان والنشاط التجارى فقد ظلت المواجهات العسكرية مع العناصر الليبية المختلفة الأعلى ايقاعا فى الساحل الشمالى بما يشى بالبعد الاستراتيجى فى رؤية رعمسيس الثانى كرجل دولة فيما أسسه من مستوطنات وحصون عسكرية. إذ تمت على عهد خلفه مرنبتاح ولعامين متتاليين هجمات ليبية بدأتها أقوام الليبو ذات الطموح الاستيطانى وباندفاع نحو وادى النيل غربا وتحديدا عند منطقة شمال غرب منف مصطحبين أهليهم ومدعمين بأقرانهم من المشوش والقهق حيث تم دحرهم وفرار زعيمهم، الذى عاود الكرَة العام التالى متحدا مع شعوب البحر (البدو البحريين). ولعل تنوع العناصر المتحالفة وعدد الأسرى والقتلى ليدل على حجم هذه الهجرة الاستيطانية التى يرى البعض أنها حطت رحالها على سواحل المتوسط الشمالية الغربية فى ذات الوقت الذى حط فيه أقرانهم على سواحل المتوسط الشرقية.
سابعا: ظل حلم العودة يراود تلك العناصر حتى تأتى لهم ذلك بإعتلاء رعمسيس الثالث العرش، وربما كان تزايدهم العددى مقابل قلة مواردهم الطبيعية أحد الأسباب المباشرة لذلك الزحف الاستيطانى ومواجهته فى العامين الخامس والحادى عشر. ورغم عدم معرفتنا بطريقى الزحف الليبى فى المرتين فإن التدابير التى اتخذها رعمسيس الثالث فى الساحل الشمالى قد حالت دون ارتيادهم لذات الطريقين، مثل إنشاء مؤسسة «سور البحر» ذات الصبغة الاقتصادية وتعيين قادة عسكريين، الأمر الذى أحكم الرقابة على مواقع هذه المنطقة التى تشجع طبيعة التربة لظهيرها الصحراوى على الارتياد والاستيطان. أما أكثر التدابير دواما فكانت عمليات التوطين والتمصير والتجنيد كمرتزقة لتلك العناصر فى محاولة لتغيير هويتها واستثمار طاقاتها بعيدا عن مواقع استقرارهم التقليدى ومن بينها بالطبع الساحل الشمالى الغربى. الأمر الذى ربما قد يفسر عدم استمرار استخدام سلسلة الحصون الرئيسية بعد رعمسيس الثالث. إذ على الرغم من الإشارات النصية لاستمرار الهجمات الليبية حتى نهاية عصر الرعامسة إلا أن تفاصيل الزحف وإرتباط المتسللين بالساحل الشمالى من عدمه يظل يعوزنا دليله.