لعل الفائدة الوحيدة، حتى الآن، لثورة 25 يناير، هى تغيير ذهننا، وترتيب أولوياتنا. حيث أنزلت، فى بدايتها، المتكبرين عن الكراسى، ورفعت المتواضعين. وقلنا إن مصر تغيرت. فسياسيا اختفى الحزب الوطنى المنحل، وأصبحنا نرى سياسيين ثوارا، واقتصاديا تحدثنا عن الحد الأدنى للأجور والعدالة الاجتماعية، وثقافيا ظهرت شخصيات تستحق التقدير، وأخرى التكسير.
ود. عز الدين شكرى فشير من النوع الأول، الذى يستحق التقدير، فهو الذى استقال من أمانة المجلس الأعلى للثقافة، وقت لم تعرف مصر مسئولا يستقيل؛ لمجرد أنه أنهى عمله، ولا يستطيع إضافة شىء جديد، وحتى يتفرغ للكتابة، باعتبارها المجد الباقى؛ ولأنه «يفضل مقعد الكتابة عن مقعد السلطة».
وكثيرا أردت أن أجرى معه حوارا، للتعرف أكثر على هذه الشخصية الدبلوماسية، صاحبة المشروع الأدبى الذى يقدره الكل بشكل ما. ولكن التقليد الصحفى يقول: «لابد من مناسبة ما لإجراء حوار، وإلا اعتبره المتحزلقون كلاما غير مبرر أو مهم، يظهر قليلا ثم يختفى».
ومع إيمانى بأن هذا المنطق الذى تحول إلى تابو صحفى، لا يمكن الدفاع عنه ولو دقيقة واحدة، وجدت أن للحوار مع د. شكرى مناسبة، وهى «عدم فوزه، هو أو جبور الدويهى، بجائزة البوكر لهذا العام، التى ذهبت إلى اللبنانى ربيع جابر، حيث كانت الأنباء تشير بقوة لفوز الدويهى أو فشير بالجائزة»، رغم أن روايته «عناق عند جسر بروكلين»، الصادرة عن دار العين، بديعة، تستحق الكتابة والاحتفاء بها.
ويبقى السبب الأهم لإجراء الحوار، وهو نوع من المراجعة، لرؤيتى لعز الدين فشير، حيث كنت أتعامل معه، باعتباره كاتبا من «الظواهر الحديثة»، التى تظهر قليلا كالبخار ثم تضمحل. ولكن يبدو أنه ثبت أقدامه، عبر روايات ممتعة: «غرفة العناية المركزة»، و«مقتل فخر الدين»، و«أبوعمر المصرى»، و«أسفار الفراعين».
سألته: لماذا تفعل معك جائزة البوكر هكذا؟ فأجاب: «لأنها تحبنى، لكن ليس لدرجة الزواج منى».
* المكان فى «عناق عند جسر بروكلين» يلعب دورا مهما، ويبدو كمحرك لكل شخوص العمل وأحداثه، وبتغيير المكان تتغير الظروف والحالات النفسية، وهو شاهد على تحولات أبطاله يوسف، درويش، رامى، سلمى، رباب، الذين لا يصلون أبدا إلى موعد الحفل..
لست متأكدا من أننا نقصد نفس المعنى حين نقول إن المكان يلعب دورا مهما، أو يبدو كمحرك الشخوص والأحداث. ولست متأكدا من أننا نقصد نفس المعنى بالمكان. ما هو المكان؟ مثلا، عدنان، الرجل الذى يزور مدرسته الابتدائية فى واشنطن ويتذكر طفولته ومعاناته فى المدرسة على يد الأطفال الأمريكيين الأصل. عدنان نسى المكان، يبحث عنه، وينظر إليه، ويشك أن هذا هو «المكان» الذى كان، ويحاول أن يقنع نفسه أنه هو كى يستطيع إنهاء المهمة التى جاء من أجلها، وهى التذكر. جاء كل هذه المسافة من ديترويت لواشنطن كى «يتذكر»، وهو مصمم على هذا التذكر الذى هو عبارة عن استرجاع لأفكار وصور بما فيها صور للمكان يحفظها فى ذهنه بصورة محددة.
ويتبين لنا من السرد أن صوره عن المكان والأحداث التى دارت تختلف عن صورة زميلته الأجنبية الأخرى. «المكان» ليس فئة موضوعية منفصلة عن ذات الشخوص وسردها ورؤيتها. إذا نظرنا للمكان باعتباره بشكل ما امتدادا للذات، فى هذه الحالة تكون إجابتى نعم على السؤال. أما إذا نظرنا للمكان، وكأنه شىء، لا وجود موضوعى ومعنى مستقل عن الذات، فإنه يصبح أقل أهمية بكثير جدا، يصبح مجرد مكان، شارع أو مبنى، لا قيمة له فى حد ذاته.
الرواية وتاريخ العرب
* ألا ترى أن الرواية فيها كثير من «المباشرة» فى مسائل سياسية، خاصة تعلق درويش بكتاب ألبرت حورانى «تاريخ الشعوب العربية»، رغم أنه كتاب مشئوم، بحسب وصفه، فضلا عن همّ درويش أن يكتب كتابا عن تاريخ العرب؟ أو لماذا تهتم بهذا الكتاب، ماذا يمثل لك؟ وعلام تراهن فى الرواية؟
شخصيا لا أراها مباشرة على الإطلاق، وقراءتى لها لا ترى فى كتاب ألبرت حورانى إشارة مباشرة لتاريخ العرب، ولا الرواية معنية بتاريخ العرب فى رأيى، وإنما تكئة للحديث عن أمور أخرى. لكن يمكن لقارئ أن يراها هكذا، وأنا لن أحاول ثنيه عن هذه القراءة. أنا شخصيا عزالدين فشير لم أقرأ كتاب حورانى، أظن أنى بدأته أكثر من مرة ولم أستطع إكماله. معظم إشارات الرواية تكئات لسرد قصة ما، لعرض زاوية ما نطل منها على حياة الشخصية، وهذا هو شاغلى الأكبر فى الرواية: زوايا النظر لواقع يختلف حسبما تنظر إليه، وحسب انعكاس الضوء، بل وحسب الوقت الذى تنظر فيه.
أظن، وهذا رأيى الشخصى، الذى لا يلزم أحدا، أن الرواية تحاور الواقع، بالمحاكاة أو بأى طريقة أخرى، لكنها فى جدل مع الواقع، ولأن الواقع طبقات وزوايا وظلال، فأعتقد أنه من حسن الرواية أن تعكس هذا.
* يأس الحال فى مصر والفرار منها، ومن النساء أيضا، مرورا بالفناء فى مهنة التدريس، وصولا لمحاولة عيش آخر يومين للبطل على بحيرة هادئة.. تحولات كثيرة كأنك تريد «هندسة العالم»، وتبحث عن اقتراح آخر للحياة... صحيح؟
- ليس أنا الذى يحاول هذا، بل الدكتور درويش. أنا أكتب روايات، وتوقفت منذ زمن عن محاولة هندسة العالم. درويش لم يفعل ذلك، ورأينا النتيجة.
بعد علمه بموته القريب، حاول البطل «تنظيف» حياته، و«توضيب» كتبه، فأخبروه بضرورة التخلص من ثلاثة آلاف كتاب، منها مقدمات ساذجة فى المسرح والرسم والنحت لكتاب مجهولين أو لصحفيين عديمى الفهم. وقبل ذلك حينما كانت تأتيه عروض للتدريس فى القاهرة كان يرفض. لماذا اخترت مسألة موت البطل وعلمه بسرطان الرئة، ومحاولة تخلصه من كتبه غير الصالحة حتى للإهداء؟ وهل هو إسقاط على حياتنا الثقافية والسياسية الآن؟ هناك إشارات كثيرة عن مستوى التعليم المتدنى والثقافة غير الواعية وغير المستنيرة وحال الأقليات.
-على فكرة، درويش ليس سوى شخص واحد من ثمانية شخوص تروى حكاياتها فى الرواية، ووروده بأولها لا يعنى أنه «البطل». الحقيقة أن أحد الأشياء التى حاولت: اللعب معها فى هذه الرواية هى فكرة البطل. ليس هناك بطل واحد فى هذه الرواية، وإن كانوا فى تداخل صراعاتهم يمكن معا أن يشكلوا خطوط البطولة التى يحفظها السرد التقليدى لبطل واحد.
ما علينا، نعود لسؤالك عن الكتب. ليس الأمر اسقاطا، ولا يحتاج فقر الثقافة وتدهور التعليم لإسقاط: درويش يقولها صراحة ويسهب لحد ما فى وصفها. التخلص من كتبه كان منطقيا؛ لأنه ينتقل من بيته لشاليه صغير، ولأنه يتقاعد ولم يبق له غير عامين على الأكثر. وهذا هو المبرر الدرامى الذى دفعه لفرز مكتبته القديمة، ثم العثور على كتاب حورانى الذى بدأ يفك بكرة قصصه.
قطعة من الواقع
* لماذا تمت قراءة الرواية على أساس أنها بحث فى مسألة الهجرة واندماج العرب فى الغرب، رغم أنها تمثيل لحياة شخوصهم بعيونهم، وليس كل العرب؟
تمت قراءة الرواية بطرق عديدة ومختلفة: علاقة الشرق بالغرب، عالم المهاجرين، قضايا الهوية، الاغتراب والذات، الحنين، نقد الرأسمالية العالمية، وغيره. وأنا أحب هذا وسعيد به؛ لأنه علامة على أن الرواية نجحت فى مسعاها الأصلى، وهو تقديم قطعة من الواقع بطبقات المتعددة وزواياه المختلفة، ووقع القارئ فى الفخ ونظر لهذه القطعة من زوايا عدة، وهو بالضبط الهدف. الخطوة التالية أن يفكر القارئ فى معنى هذا التعدد فى زوايا النظر لنفس القصة وتعدد القراءات لنفس النص. هذه مهمة القارئ الفطن.
* ولماذا اخترت جسر بروكلين، ولماذا لا يصل الأبطال إلى موعد حفل عيد الميلاد.. وما كل هذا التعطيل فى حياة هؤلاء. وهل توافق على أن «عناق عند جسر بوكلين» رواية «حب واستحالة» بامتياز. عناق يتم، ولكن الحب لا يكتمل، حيث يفترق لقمان وماريك حبيبته، لارتباط كل واحد بوطنه..
الجسر حالة بين حالتين، رابط وحاجز، مكان لقاء وفراق، على حسب قرار الشخصيات وهواها. وهذا هو سبب اختيار الجسر. هل لم يكتمل الحب؟ هل الحب والاستحالة ضدان؟ أترك السؤال للقارئ.
* اختلاف الضمائر فى الرواية «الهو الأنا» لماذا وما تعليقك على هذا التعدد عبر 8 فصول؟
هذه نقطة فى غاية الأهمية. ولاحظ أيضا أن الراوى حين لا يكون صوت الشخصية هو الراوى ليس راويا عليما، بل هو ملتصق بالشخصية لا يرى إلا ما تراه ولا يسمع إلا ما تسمعه الشخصية. وهكذا يكتمل التعدد فى الحكى: ثمانية شخصيات تدور حول نقطة واحدة، من زوايا عديدة، بروايات وحكايات عن الماضى والحاضر الذى تتداخل فيه مع بعضها. ولأننا لا نسمع ولا نرى إلا ما تقوله كل شخصية دون أن يكون لنا منفذ للحقيقة الموضوعية المنفصلة عن رؤية الشخصيات فإننا نظل فى قراءتنا لما يحدث أسرى لمناظير وزوايا متعددة ومتنافسة. هذه هو كل ما هناك: زوايا ومناظير مختلفة ومتنافسة، ولا أحد لديه الحقيقة المطلقة، أو لديه باب يؤدى إليها. وهذا بالضبط جوهر المأساة الإنسانية. وربما تكون هذه هى قراءتى أنا للرواية.