يدور حوار قصير بين محمد فهمى وصديقه، فى الخامسة من مساء أمس الأول، وفى الخلفية هتافات: «يسقط يسقط حكم العسكر»، و«اتنين مالهمش أمان، العسكر والإخوان».
يتوقف العشرات من المارة يتأملون المشهد، يسأل أحدهم عن سبب الوقفة، وأهدافها، فيجيبه آخر: «عشان العسكر يمشوا، وعزل الفلول». وعلى تويتر يكتب أحمد مكى: «فى وقفة دلوقتى فى ميدان طلعت حرب علشان ابراهيم باز اللى اتخطف امبارح، يا ريت ننزل نشارك. اللى قريب من وسط البلد ينزل».
بعد دقائق، تتحرك المسيرة التى ارتفع عدد المشاركين فيها ليتجاوز الثلاثة آلاف باتجاه ميدان التحرير، ينضم إليها مئات آخرون، وفى الطريق يتردد تساؤل ملح: «رايحين فين؟»، وتجىء الإجابة مغلفة بغموض متعمد: «زى ما تيجى».
يسجل حساب تليفزيون 25 على تويتر تغريدة: «المئات فى مسيرة من طلعت حرب استعدادا لمليونية الغد.. ونشطاء: المسيرة بداية الثورة الثانية واتجاهها مفاجأة».
السماء مالت للظلمة، والحشود فى منتصف ميدان التحرير مازالت تردد هتافاتها، وقد تضاعف عددها، بينما لايزال أغلب المشاركين مستسلمين يجهلون اتجاه السير. وعندما تصعد المسيرة كوبرى أكتوبر، فى الجهة القريبة من هيلتون رمسيس، يعترض الكثيرون تخوفا من توقف حركة المرور ونقمة المارة، لكنهم لا يتخلفون.
خلال دقائق، تنقل قناة الجزيرة مباشر مصر عن منسق صفحة ثورة الغضب الثانية، هشام الشال، قوله: «نقطع كوبرى أكتوبر لكى نرسل رسالة إلى المجلس العسكرى ونقول له البلد لا يجب أن تمشى دائما على هواك»، وعن المتحدث باسم حركة شباب 6 أبريل، محمود عفيفى: «ليس لنا أية علاقة يقطع كوبرى 6 أكتوبر وفوجئنا بتلك الخطوة»، وينقل موقع مصراوى عن «مصدر بالداخلية» أن قاطعى الكوبرى هم أنصار المرشح الرئاسى المستبعد، حازم صلاح أبوإسماعيل.
تسود موجة اعتراضات عارمة على مواقع التواصل الاجتماعى بسبب قطع الكوبرى، ويكتب الناشط نور أيمن نور على تويتر: «أنا ماليش فى التخوين واتهام البعض بالعمالة لجهاز المخابرات، ولكن اللى حصل على كوبرى أكتوبر ده تم على نمط مخططات المخابرات لإجهاض فاعلياتنا». ويكتب محمود عزت: «قفل كوبرى أكتوبر غباء لأنه مش بيمثل أى ضغط حقيقى على السلطة ولا فعال فى توصيل أى رسالة»، ويكمل بعد قليل: «تويتر كله ضد قطع كوبرى أكتوبر، أمال مين اللى هناك إذا ما كانش النشطاء؟»، يكتبها على هذا الشكل متهكما.
بعد لحظات، تبدأ اشتباكات بين المسيرة ومجهولين يقذفونها بزجاجات فارغة، قبل أن يأتى العشرات فى مسيرة ثانية تنادى بالعودة للتحرير، وتنجح بصعوبة فى إقناع المئات، وتبدأ رحلة العودة للميدان، ويستأنف المرور سيره بعد نحو ساعتين من التوقف، وتشير إشارة المرور فى برنامج «بيقولك» الإلكترونى، بأن «أخيرا.. كوبرى أكتوبر سالك».
لمن كل هذى المنصات؟
قبل أن ينتصف ليل الجمعة، كانت تسع منصات منتصبة فى التحرير، منها 5 فى جانب واحد فى الميدان، استعدت كل منها بمكبرات صوت وشباب للتأمين وآخرين للإدارة، ما عدا منصة وحيدة كانت قيد الإنشاء، وليس حولها أحد.
«أنا ماعرفش تبع مين، احنا تبع محل فراشة، ومطلوب مننا نركبها هنا»، يقول أحد خمسة عمال كانوا منهمكين فى نصب أخشاب المنصة. يرفع الرجل حملا ثقيلا من حديد مطوى، يفرده فيتحول إلى هيكل كامل لمنضدة، يفرد عليها لوحا خشبيا، ويرصه بحيث يبقى جزءا من سلم الصعود إلى أعلى المنصة.
«المنصة دى أعلى واحدة فى الميدان»، يقول صاحب محل الفراشة، مسعد إمام، موضحا أن تكلفتها اليومية بمكبرات الصوت تبلغ 15 ألف جنيه «فقط».
لا يعرف إمام من الذى استأجر منه الفراشة: «ناس عن طريق حد معرفة كلمونى، وطلبوها منى، ودفعوا العربون قبل الحاجة ما تتحرك من المحل، والباقى بعد نصبتها فى الميدان».
على تويتر، تنتشر موجة من التهكم بسبب كثرة عدد المنصات، فتكتب عضو مجموعة لا للمحاكمات العسكرية، منى سيف: «برنيطتك على رأسك، ستيكراتك على هدومك، منصتك فى إيدك ويللا على الميدان»، وتسجل يارا إمام خبرا عاجلا: «ضبط مجموعة من الشباب فى ميدان التحرير من غير منصة وجار التحقيق بيقولوا بتاع الفراشة هو اللى اتأخر»، ويغنى أحمد عبدالوهاب على نسق أغنية المطرب الشعبى، أحمد عدوية: «آجى من هنا منصة، وأروح هنا منصة».
فى الميدان.. حازم بالجملة
يتوزع مؤيدو أبوإسماعيل على منصتين كبيرتين متجاورتين، تشرف على أحدهما حملة «لازم حازم»، والأخرى «طلاب الشريعة»، الذين كانوا معتصمين أمام مقر اللجنة العليا للانتخابات احتجاجا على قرارها النهائى باستبعاد حازم صلاح من سباق الرئاسة، بدعوى حصول والدته على جنسية أمريكية.
تكتب نادين أحمد على تويتر: «منصة أنصار حازم، ومنصة لازم حازم.. والنبى حازم، وحازم بقى بجد، وماله بس حازم، وجربوا حازم، وآخر منصة.. أم حازم».
يدور حوار طويل بين عدد من الواقفين منتصف الميدان، بينهم أربعة سلفيون (يبدو من لحاهم الطويلة المصبوغة بالحناء، وجلابيبهم القصيرة)، يصدون هجوما حادا من البقية: «كنتو فين فى أحداث محمد محمود لما الدم سال؟، كنتو فين لما البنت اتعرت فى الميدان؟، تعرفوا بس تنزلوا لما الشيخ حازم يكح؟». يرد أحدهم بهدوء: «كنا فى البيت».
يصرخ شاب فى وجهه: «كنت فى البيت، ومبسوط بروحك»، فيقاطعه السلفى: «احنا اعترفنا بغلطنا، كنا فاهمين الموقف من وجهة نظرنا بشكل تانى»، فيقاطعه الأول صارخا: «وهى دى فيها وجهة نظر؟ بقولك الناس ماتت، البنت اتعرت، إسلامكم بيقولكم ده محتاج تفكير عشان تنصر أخوك المسلم»، بصعوبة ينجح السلفى فى الحديث: كنا فاكرين إن اللى فى الميدان دول مدسوسين، علشان يبوظوا المرحلة الانتقالية، ولما فهمنا الصح نزلنا أهوه، ومش ماشيين إلا لما العسكر يمشى».
«حاولنا التنسيق مع البقية، للاتفاق على أن تقام منصة واحدة فى الميدان، لكنهم رفضوا»، يقول المتحدث باسم حركة 6 أبريل، جبهة أحمد ماهر، محمود عفيفى، على بعد خطوات من منصة كانت لاتزال قيد الإنشاء، رافضا توضيح من هم الذين رفضوا، لكنه يشير لأن مؤيدى أبوإسماعيل يقيمون منصتهم منذ يومين، وكان من الصعب قبولهم بحلها.
اعتصام نعم.. اعتصام لا
يتحدث البشلاوى عن «اتجاه كبير للاعتصام، لكن لسه القرار ماتحددش بشكل نهائى»، موضحا أنه «مادام الإخوان رجعوا للثورة، وقالوا يسقط الحكم العسكرى، ده شىء إيحابى، احنا كنا فى كاذبون بنتعرض لضرب وإهانة وكانوا يتهمونا بالتخريب، ولا كانوا معانا فى محمد محمود، رجعوا يقولوا احنا معاكو، وإن نعم فى استفتاء التعديلات الدستورية كانت غلط، يبقوا معانا ونتحرك معاهم لتحقيق المطالب المتفق عليها».
على الجانب الآخر من الميدان، وامام كنتاكى، يوزع أدوار العمل فى المنصة التى كانت على وشك الاكتمال، على عدد من الشباب لابسى سترات تحمل شعار «مجلس أمناء الثورة»، والذى يشارك فيه، حسب قوله، 40 حركة ثورية، منهم الإخوان المسلمين والجبهة السلفية و6 أبريل (الجبهة الديمقراطية)، واتحاد شباب الثورة وائتلاف شباب الثورة، والتى قررت عدم الاعتصام فى الميدان.
فى السادسة صباحا، تتوافد حشود «إسلامية» على الميدان من محافظات مختلفة. يتوقف ميكروباص يحمل لوحة معدنية «أجرة سوهاج»، ينزل منه نحو 15 شابا ملتحيا، على وجه بعضهم أمارات نوم ثقيل، ويحمل مأكولات ومفروشات بسيطة: «جايين عشان تسليم الحكم لسلطة مدنية منتخبة، والمجلس العسكرى لازم يمشى»، يقول أحدهم، متابعا بأنهم «مش جايين عشان المهندس خيرت، أصله خلاص، بس الأهم هو تسليم السلطة».