27 عاما قضاها «أبوهند» بين جدران شركة غزل المحلة تطبع خلالها بطباع ماكيناتها، التى لا تهدأ، وتعمل فى جد ودأب وانتظام دون أن تعرف إلا لغة الإنتاج، حتى لو كانت حصيلة هذا الإنتاج لا تعود إليه إلا بالفتات. لم يتخلف يوما عن مكانه فى المصنع، الذى ترك آثاره على قسمات وجهه وعلى صوت سعاله وحشرجة صدره عند استنشاق الهواء المحمل بالأتربة والوبريات ورائحة القطن، ظل طوال هذه السنوات كالساعة السويسرية، يصحو فجر كل يوم ليستقل قطارا يقله يوميا فى السادسة صباحا من قريته الصغيرة فى السنطة حتى المحلة حيث تقبع (من كانت) قلعة النسيج الكبرى. فى البدء كانت المحلة، وفى البدء كان عمال المحلة هم شرارة الثورة، أو من أوقد شعلتها، ودفع ثمنها، ومهد لها الأرض، لا تصدق المثقفين والسياسيين، تجار الدين منهم والعلمانيين، فالثورة قامت من رحم معاناة البشر، لذلك تصدرتها مطالب العيش والعدالة الاجتماعية، التى مازال يبحث عنها العمال فى المحلة وفى كل مكان. يعمل «أبوهند» 8 ساعات يوميا، يضيف إليها ساعتين للسفر ذهابا وعودة، ويعود منهكا يتصبب عرقا وألما، فلا تكفيه بقية ساعات اليوم لممارسة أى عمل إضافى، وتكفى بالكاد لراحته ونومه استعدادا ليوم جديد من الشقاء والجهد.
يكفى أن تلقى نظرة على قسيمة أجره، لتعرف لماذا شارك فى الإضراب ومن بعده الثورة.. ساعة الإنتاج فى قسيمة المرتب الشهرى «لأبوهند» قيمتها 67 قرشا أى أن 8 ساعات تساوى خمسة جنيهات و36 قرشا لا تتعجب من الأرقام فشركة غزل المحلة مازالت كل أوراقها الرسمية تعترف بالمليم كوحدة مالية مستقلة قيمة راتبه الأساسى 167 جنيها و50 مليما، وأجره الإضافى 103 جنيهات و256 مليما، وبدل طبيعة العمل 15 جنيها و616 مليما، وإعانة الغلاء خمسة جنيهات، وبدل الغداء فى الشهر طبعا 16 جنيها و250 مليما، وحافز الإنتاج 11 جنيها و693 مليما، والعلاوة الخاصة 4 جنيهات و984 مليما، أى أن جملة ما يستحقه 399 جنيها و656 مليما.
تذكر معى أن «أبوهند» يعمل فى الشركة منذ 27 عاما، وحسب قسيمة الراتب فإن هذا المبلغ لا يتقاضاه كاملا حيث يستقطع منه 92 جنيها و956 مليما ما بين أقساط تأمينات اجتماعية وتكافل وصندوق زمالة وادخار إلى آخره، ليبقى ما يتقاضاه بالفعل ويعمر به جيبه مطلع كل شهر 306 جنيهات وسبعين قرشا بالتمام والكمال، وفى عين العدو أيضا.
الرجل رب أسرة، ولديه زوجة و 3 أبناء والعمر الذى قضاه فى المصنع أثمر أيضا عن ربو حاد ومتاعب فى الكبد.. وعندما يحاول زيادة دخله يضحى بإجازته الأسبوعية ويذهب إلى العمل، حيث يحتسب له اليوم بخمسة جنيهات و520 مليما، وتتضاعف فى الأعياد.
كان «أبوهند» فى قلب المحلة مع غيره يمهدون للثورة قبل 4 سنوات، وكان مع غيره فى ميدان «الشون» بالمدينة يشاركون فى الثورة عند اندلاعها، لكنه بعد عام وأكثر من قيامها، مازال يهتف ذات الهتاف بحسرة: «هما بياكلوا كباب وفراخ.. وإحنا الجوع دوخنا وداخ».