وسط مشاهد الدماء التى تسيل يوميا فى مدن سوريا، يبادر مجموعة من اثنى عشر فنانا تشكيليا سوريا بإقامة معرض يضم أحدث أعمالهم بعنوان «فنانون من سوريا الآن». وهى فكرة مثيرة للاهتمام تبنتها فى مصر قاعة مشربية التى رأت صاحبتها «ستيفانيا أنجارانو» أهمية أن يعرف الجمهور المصرى من خلال أعمال فنانين من داخل سوريا حقيقة ما يواجهون وكيف يصمدون أمام بطش الحاكم ومجازره، بل وكيف يبدعون أيضا تحت نيران المدافع. ثم انتقل المعرض إلى بيروت منذ أيام بإضافة ثلاثة فنانين فى قاعة «قطان»، ليطرح التساؤل من جديد حول موقع الفن التشكيلى فى التعبير عن اللحظات المروعة فى التاريخ الإنسانى. هل ينبغى أن ينقل الفنان الدماء والمجازر على سطح اللوحة لتكون صورة طبق الأصل من الواقع، وحتى يكون منخرطا فى النضال الوطنى؟ وماذا سيترك للصورة الضوئية الصحفية إذن؟ وهل صحيح أن الأعمال تمتاز بالتنوع والجودة لكنها تصلح لكل زمان ومكان ولا تعبر عن سوريا اليوم، كما كتب فى جريدة النهار البيروتية؟ الإجابة تأتى من المعرض نفسه، من إبداع الفنان السورى تحت آلة الحرب رغم كل المحن، وتصميمه على المواصلة على مرأى ومسمع من التدمير اليومى لأهله وذويه. والإجابة تأتى أيضا من قصة المعرض التى تحمل فى طياتها جوهر النضال، حيث بدأ تجمع الفنانين السوريين المستقلين منذ يونيو 2011 بصفحة على الفيسبوك باسم «الفن والحرية»، وفتحت الصفحة على مصراعيها لتلقى أعمال الفنانين من رسومات وأشعار وآراء فى الأحداث السياسية، وبيانات لفنانين تشكيليين أبوا أن يصنفوا دائما على هامش الأحداث السياسية، مثل الوثيقة التى بدأت بسبعين فنانا وتضاعفت فيما بعد وكانت تشيد بالحراك المدنى فى سوريا الذى يغفله الإعلام متعمدا، وترفض تسليح المدنيين الذى سيقود إلى التدخل الأجنبى فى سوريا. وصارت الصفحة اليوم منفتحة على العديد من المشاركين العرب وليس فقط السوريين، وكان الشرط الوحيد لتلقى الأعمال على الصفحة هو الإفصاح عن هوية المشارك، كما يروى الفنان السورى منير الشعرانى أحد أفراد المجموعة ومنظم المعرض بالقاهرة. ويغلب على الفنانين الاثنى عشر أصحاب المعرض الروح النضالية، ويتشكل هؤلاء الفنانون من أجيال مختلفة واتجاهات مختلفة من داخل المعارضة ومن خارجها، على رأسهم يوسف عبدلكى ومنير الشعرانى المعروفان كفنانين معارضين للنظام السورى واللذين كانا ممنوعين من دخول سوريا منذ أواخر السبعينيات، ومن أدوار شهدا وطارق البطيحى وعاصم الباشا وعبدالله مراد و فادى يازجى وناصر حسين ونصوح زغلولة و هبة عقاد وياسر صافى ويامن يوسف.
أما عن الموضوعات التى تناولها الفنانون، فليس بالضرورة أن يحذو الفنان حذو بيكاسو حين رسم رائعته «جارنيكا» منذ ما يقرب من القرن للتعبير عن مأساة الحرب فى إسبانيا، بل قد يرسم أحد فنانى سوريا غابة من الورود تحيط برأس امرأة لتكون رمزا لصناديق الموتى تزينها الورود، كما فعل الفنان أحمد على على صفحة «الفن والحرية»، أو ليكون مجرد استحضار الزهرة تعبيرا عن رفض الدماء وطوقا إلى الخلاص. كما أنه ليس بالضرورة أن تكون لوحة يوسف عبدلكى تصور الشهيد نازفا حتى يكون الأكثر تعبيرا عما يجرى فى بلده، بل قد يعتبر البعض لوحته الأخرى بالمعرض هى الأكثر رمزية والأكثر تعبيرا عن الفجيعة والأقرب إلى خط أعماله السابق، وهى تصور سكينا حادا ينغرس فى قلب الأرض بينما بجانبه قلب بشرى لا يكف عن الخفقان. ما يهم عند مشاهدة هذه الأعمال الفنية ليس البحث عن التعبير الأكثر التصاقا بالواقع، لأن فى هذه الحالة سيتم استبعاد كل ما هو رمزى وستصبح لوحة متميزة للفنان الكبير عبدالله مراد خارجة عن السياق لمجرد أنها تحمل خطوطا تجريدية لم تخضب بالدماء، وستصير أعمال هبة العقاد أعمالا تزيينية بعيدة عن الثورة، رغم أن الفنانة التى شاركت فى معظم التظاهرات السورية طورت من أعمالها السابقة تأثرا بالثورة ورسمت أشكالا تجمع بين نقوش الجداريات الشعبية وآثار الرفض على جدران الشوارع السورية. ما يهم هو الانصات إلى رسائل هؤلاء الفنانين ومحاولة فك شفراتها، لنتعرف على معايشتهم للاحداث وتصميمهم على الإبداع، وقد ندخل فى لعبة مقارنة نرصد فيها عمل الفنان قبل الثورة وبعد اندلاعها، مثل فى أعمال الفنان الأشهر يوسف عبدلكى، أو عند منير الشعرانى الذى عرفت أعماله بالخط العربى واستلهام الأشعار الصوفية، فنجده قد انحاز فى هذا المعرض إلى كلمات الثورة مثل نعم للحرية فى إحدى لوحاته، أو فى لوحة أخرى راح يكتب «سورية» ويكررها كما فى كتابتها الأصلية العربية (بالتاء المربوطة وليس بالألف) واعتمد على وحدات زخرفية فى التكوين للتأكيد على التحام جميع عناصر الأمة من سنة وأكراد وعلويين ومسيحيين ليكونوا سويا الهوية السورية.