منذ سنتين، أطلقنا في حوارنا مع شريف يونس، مقولة تبدو غير منطقية الآن، وهي:" د.شريف يونس اسم بدأ يتردد بقوة في الآونة الأخيرة"، حيث أصبح يونس، المترجم والباحث، الآن ملء السمع والبصر، في مجاله، أولا بفضل ترجمته للكتاب المهم "كل رجال الباشا" للدكتور خالد فهمي، وثانيًا بعد صدور كتابه الصعب والمتعب "نداء الشعب.. تاريخ نقدي للأيديولوجيا الناصرية" عن دار الشروق. لم يبالغ الشاعر أشرف يوسف، المحرر العام بدار العين، حين وصف يونس بالغلاف الخلفي لكتابه "مسارات الثورة" الصادر حديثًا أيضًا عن العين، باعتباره ".. من المؤرخين الجدد البارزين في مصر الذين أخذوا على عاتقهم تجاوز رؤية المدرسة القومية في قراءة التاريخ؛ بالتحرر من الأيديولوجيا وهدم الأصنام، وطرح أسئلة جديدة وليس تقديم إجابات جديدة على أسئلة قديمة"، وهذا صحيح، فمن يقرأ كتبه أو مقالاته يجدها صادمة للناس؛ إذ تقدم جانبًا آخر من تاريخ مصر لم نتعود على قراءته. أبناء مهنة الكتابة، يعرفون أن أفضل طريقة لتقديم قراءة في كتاب ما، تأتي بعد أن نغلق الكتاب، ومن ثم تبدأ الأفكار في التدفق من الذاكرة، فيبتعد عن الاقتباس، ويكتب متأثرًا بانطباعاته الأولى عن هذا الكتاب، ولكن كيف الحال مع كتاب مثل "نداء الشعب"، خاصة إذا عرفنا أن غرض المؤلف الأكبر هو "تقديم شكل مختلف من الكتابة والمناقشة حول كل ما ورثناه، وتعودنا عليه"؟ إذًا، عمل يونس في الأساس، بلا تواضع زائف، يجدد ذهننا بتغيير عاداتنا في القراءة والكتابة. في 2005 نشر يونس جزءًا صغيرًا من هذه الدراسة، وهي "تعبه وشقاه 11 سنة" بتعبير يونس، بعنوان " الزحف المقدس" عن دار ميريت للنشر، وقتها حدث جدل حوله، وكتب كثيرون ينتقدون هذا الجزء الصغير، ومنهم الكاتب المشاغب شعبان يوسف، واعتبره البعض "اعتداء على تاريخ مصر، وعلى الحقيقة"، طبعًا كانوا يقصدون تاريخ "الناصرية"، هذا عن الجزء الصغير من الدراسة، فمابالنا بنشر الدراسة الكاملة التي صدرت في 754 صفحة؟!
يبدو يونس كمن يدس السم في العسل، يكتب عن الناصرية، التي يبدو أن الباحث يقف منها موقف "غير المرتاح" بالكامل لها، ينبه الناس إلى وثنية عبادة "الناصرية"، إذا جاز التعبير، وعلى الناصريين دحض كلامه، وعدم اعتبار كتابه مؤامرة أو خطة للقضاء على الناصرية، ف" ليست الأيديولوجيا في عرف هذه الدراسة إذن خطة أو مؤامرة". في الإهداء "إلى شهداء وأبطال الثورة المصرية الذين كشفوا على أرض الواقع خواء اسم الشعب"، يقرر يونس خواء المقولة المحورية للأيديولوجية الناصرية "كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب"، حيث يرى أن "غاية ما يُستفاد من النص بمعناه الحرفي أن السكان تم تقسيمهم إلى شعب وأعداء، والأولون غير محددين أصلا، وينالون شيئًا غامضًا يُسمَّى "كل الحرية"، بينما ينال الآخرون، غير المحددين لعدم تحدد الطرف الأول، شيئًا لا يقل غموضًا هو "اللاحرية" (تبدأ مثلا بالحرمان من الحقوق السياسية، وحتى التعذيب وصولا إلى القتل فى المعتقلات)". تجاوزًا لرؤيته الفلسفية عن النقد والأيديولوجية، وهي رؤية ثقيلة على القارئ الذي تعود على الكتابات السهلة، أو على قراءة كتاب لا يحمل بين ضفتيه إلا مجموعة من المقالات نُشرت هنا أو هناك، نحتك بفكرته عن الأيديولوجية، بوصفها ليست فكرًا سياسيًا، وإنما هي دراسة الوعي العام وتشكيله، ونعرف أن هذه الأيديولوجيا مصطلح غامض، يتضاعف في حالة النظام الناصري، الأكثر كلامًا في تاريخ البلاد، عن نفسه، وعن ظروف قيامه وأهدافه، وأسس شرعيته والمبادئ التى يقوم عليها. وبخبثٍ محمود، يشير يونس إلى أن كلام تلك الفترة، لم يكن شرحًا لما يجب عمله، ولا تغطية بسيطة على ما يجري بالفعل، بمعنى أنه أكاذيب، بل هو فعل سياسي يشكل حجر الزاوية في بناء النظام السياسي الجديد؛ لذا فهو كلام في الأيديولوجيا، ومن إحدى النواحي كانت كثرة الكلام بديلا عن الوضوح المؤسسي، أو بعبارة أخرى، كان هذا الكلام بديلا عن عجز النظام، لأسباب تتعلق بطبيعته السلطوية وظروف نشأته. انظر مثلا، استكماله لذلك الخبث، حين يشير إلى أن السد العالي لا يجب التعامل معه كشاهد حكم على الفترة الناصرية أو طرح سؤال: هل كان السد جيدًا أم سيئًا؟ والذي يجيب عنه :"الحال أن السد، كمجرد مثال، لم يكن أكثر من تتويج لسلسلة من مشروعات الري التي بدأت مع عهد محمد علي، وحتى إقامة خزان أسوان ثم تعليته مرتين، وقبل السد العالي كان أربعة أخماس الأراضي الزراعية، تتبع نظام الري الدائم بكل محاسنه ومساوئه، فلم يزدد دور السد عن مضاعفة "حسنات" و"سيئات" الري الصناعي الحديث". في الكتاب، الكثير من الأفكار والموضوعات التي تستحق النقاش، والتي لا يسعها ضيق المساحة هنا، لعرضها بالكامل، ولعل الصدق واجب أن ما كتبته في السطور السابقة، هو فقط مناقشة بسيطة للمقدمة العميقة للكتاب الذي يشتمل على أربعة أبواب، وهي: إنتاج الشعب والمدينة الفاضلة والثورة الدائمة والناصرية، ثم تذييله المهم في نهاية كتابه عن "الناصرية في التاريخ"، ورؤيته أن نظام يوليو قام لكى يقود السكان في عملية فرار من ماض ٍمكروه، أما المستقبل فكان في خطوطه العريضة متابعة أوهام ساخطي الثلاثينيات والأربعينيات، في إرساء دعائم ثابتة لدولة نشطة ومزدهرة وموحدة وقوية، على أساس الهوياتية السلطوية، الوطنية بشكل عام. وعلى الوسط الثقافي ألا يفوت هذا الكتاب، الذي من المؤكد أنه سيثير جدلا واسعًا، حول رؤيتنا عن حكم العسكر القدامى، والحاليين، وكيفية إنتاج مقولة "الشعب"، الذي يبدو أنه خارج حسابات من هم في السلطة.