تحتفل تونس بالذكرى الأولى للثورة، اليوم السبت الرابع عشر من يناير، والتي بدأت بإقدام الشاب محمد البوعزيزي، على إبرام النار في جسده يوم 17 ديسمبر 2010، احتجاجاً على تردّي أوضاعه الاجتماعية، مقدمة لانطلاق حركة احتجاجية بل انتفاضة شعبية واسعة، تسارعت أحداثها بشكل غير متوقع. وانتقلت عدواها من سيدي بوزيد في الوسط، إلى تالة والقصرين في الشمال الغربي، لتلحق بها بقية القرى والمدن التونسية الواحدة تلو الأخرى. وفي مثل هذا اليوم من عام مضي، وعندما وصلت الاحتجاجات إلى العاصمة وتحديداً شارع الحبيب بورقيبة، أجبرت الجماهير المنتفضة الرئيس السابق بن علي على الفرار. في مؤشر على نجاح الحركة الاحتجاجية التي تحولت إلى ثورة شعبية سلمية، هي الأولى من نوعها في القرن الواحد والعشرين. كان لها فيما بعد رجع الصدى في كامل المنطقة العربية من المحيط الى الخليج، لتدشن ما أصبح يعرف بالربيع العربي.
لايزال الكثير في الداخل والخارج، من المتابعين للشأن الاستراتيجي التونسي والعربي، في "حالة ذهول" مما جرى ويجري في تونس، هذا البلد الصغير جغرافياً وسكانياً، والذي بيّن أنه يمتلك أسس ومقومات تجربة مجتمعية تحديثية "نموذجية" في محيطها العربي. فلم تستطع سنوات الاستبداد والديكتاتورية السياسية في عهد زين العابدين بن علي (1987-2011) أن تؤثر فيها. وربما يعود الفضل في هذا إلى "الإرث" التحديثي المستمر، الذي تناقلته النخب في تحقيق هذا المنجز التاريخي – الثورة والانتقال السلس نحو الديمقراطية.
فمثلما قامت الثورة البلشفية (1917) في مجتمع زراعي (روسيا)، وخيّبت توقعات الماركسيين بأولوية قيامها في مجتمع صناعي. فقد قامت الثورة في تونس "البلد المنسجم والمستقر"، وسبقت أقطاراً عربية كانت مرشحة لذلك ومنها مصر واليمن، بحكم تفجّر أوضاعها الاجتماعية والسياسية وتوالي حركات الاحتجاج بها.
كما فاجأت الثورة التونسية كل المتابعين للحراك الشعبي والسياسي، فالخطوات التي ميزت الانتقال الديمقراطي كانت أيضاً محل "إعجاب" من قبل كل المهتمين بالشأن التونسي. ففي أقل من سنة استطاعت النخب والقوى المدنية والسياسية التونسية، تجاوز حالة الفراغ السياسي والانفلات الأمني، وحسن إدارة المرحلة الانتقالية والمرور نحو إعادة التأسيس لعودة الشرعية لمؤسسات الدولة.
وفرضت القوى الثورية التونسية، من خلال اعتصام القصبة 1 و2 على الحكومة الوقتية خارطة طريق المرحلة الانتقالية. والتي تقوم على مبدأ القطع النهائي مع بنية وثقافة النظام السابق. والتأكيد بذلك على أن ما حصل يوم 14 يناير هو ثورة وليس مجرد حركة إصلاحية. عبر النص على تنظيم انتخابات لمجلس وطني تأسيسي توكل له مهام إعداد دستور الجمهورية الثانية، وكذلك إدارة المرحلة الانتقالية الثانية أو المرحلة التأسيسية.
وقد تفاعلت الحكومة الوقتية برئاسة الباجي قائد السبسي وكل من المؤسستين العسكرية والأمنية بإيجابية ومصداقية مع المطالب الاجتماعية والثورية. من خلال دعم الإدارة وبقاء واستمرارية الدولة، وتوفير كل الظروف المناسبة لإنجاز الانتخابات.
وقد تمكنت من كسب كل رهانات المرحلة الوقتية، برغم تفجر الأوضاع الاجتماعية في الداخل، وكذلك الأمنية نتيجة الحرب الأهلية على الحدود مع ليبيا.
واستطاعت الحكومة الانتقالية الوفاء بكل تعهداتها، وكانت في مستوى تطلعات التونسيين. من خلال حماية السلم الاجتماعي، وعدم توقف النشاط الاقتصادي وحماية التوازنات المالية العامة للدولة من الإفلاس. مستندة في ذلك إلى وجود مؤسسات وإدارة بيروقراطية عقلانية ومركزية قوية متشبعة بثقافة الولاء للدولة. ما ساعد على تأمين كل مقومات النجاح لتنظيم انتخابات حرة وديمقراطية لأول مرة في تاريخ تونس الحديثة، بشهادة كل المراقبين الدوليين. كما أن السلطات الوقتية من رئاسة وحكومة، كانت حريصة على ضمان الانتقال الديمقراطي السلس.
فكان أن عرفت تونس خلال الأيام الأخيرة أحداثاً تاريخية، تمثلت في انعقاد المجلس الوطني التأسيسي، وانتخاب ديمقراطي لرئيسه الدكتور مصطفي بن جعفر. الذي أدار بكل مهنية جلسات مناقشة مشروع قانون التنظيم المؤقت للسلط أو ما يسمي ب"الدستور الصغير".
وبرغم التباينات بين النواب واصطفافهم بين أغلبية وأقلية، فإن المشهد العام غلبت عليه "روح التوافق" التي حكمت – إلى حد بعيد – المرحلة الوقتية، من خلال حصول تفاعل إيجابي بين التحالف الثلاثي – المتكون من أحزاب النهضة والمؤتمر والتكتل – والمعارضة، حيث نجحت الأقلية في تعديل نص المشروع المقترح، وإدخال تعديلات تهدف الى ضمان السبل القويمة لإدارة المرحلة التأسيسية، عبر توزيع السلطات وتقاسمها بين الرئاسيات الثلاث، ومنع "الاستقواء" بمنطق الأغلبية، ممثلة في حزب النهضة الإسلامي، لإعادة إنتاج النظام السياسي السابق القائم على الاستبداد بالرأي الواحد والحزب الواحد والرجل الواحد.
وبعد قيام المجلس الوطني التأسيسي، الذي يمثل العنوان السياسي لإدارة المرحلة القادمة، التي تعرف بكونها "المرحلة التأسيسية"، كان انتخاب رئيس الجمهورية عبر الانتخاب المباشر من قبل نواب المجلس، في جلسة تاريخية عرفت تفاعلاً وتجاوباً كبيراً من قبل قطاعات واسعة من الشعب التونسي.
وتجسدت أبرز مظاهرها الحضارية من خلال مراسم انتقال السلطة من الرئيس الوقتي فؤاد المبزع إلى الرئيس المنتخب الدكتور منصف المرزوقي، ومن رئيس الوزراء المؤقت إلى رئيس حكومة منتخب، في مشهد بدا كما لو أنه من قبيل "الحلم" في العالم العربي، الذي لم يعرف غير حكم الاستبداد، ولا يكون فيه الانتقال في السلطة إلا عبر "عزرائيل" أو الانقلابات والبيانات العسكرية.
كما مثل هذا المشهد لحظة تاريخية فارقة وإعلاناً عن حصول تغيير أو قطيعة مع بنية النظام الذي حكم تونس منذ عهد الدولة الحسينية، وتجذر بعد قيام الدولة الوطنية أو دولة الاستقلال، وبداية التأسيس لثقافة ونظام سياسي جديد يقوم على التداول على الحكم الذي هو أساس بل جوهر الفكر والممارسة الديمقراطية.
كما أنه مثل أيضاً علامة دالة على عودة الاعتبار للمؤسسات خاصة رئاسة الدولة، التي تحولت في عهد الرئيس السابق إلى مؤسسة للفساد والتسلط ورمز للديكتاتورية. وهذا ما استكمل من خلال الإعلان عن الحكومة العتيدة التي يرأسها الرجل الثاني في حركة النهضة الإسلامية. وستوكل لحكومة الإسلاميين مهام الإدارة التنفيذية للفترة التأسيسية، التي يتوقع أن لا تتجاوز سنة، يصار بعدها إلى تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية.