وضع الكاتب البريطاني سايمون جنكينز "تصورا" لمرحلة ما بعد الرقمية من دون ان يلغي قيم القراءة التقليدية وطقوس زيارة المتاحف ودور العرض والمكتبات. واشار في مقال تحليلي في صحيفة "الغارديان" ان العصر ما بعد الرقمي سيكون بمثابة معادل تاريخي لأزمنة الراديو والتلفزيون والفاكس والصحيفة الورقية وبعدها الالكترونية، من دون ان يقلل من مستقبل قيم القراءة الشائعة والاستماع والمشاهدة الحية للحفلات الموسيقية والغنائية.
ووصف جنكينز رئيس الاتحاد الوطني البريطاني والحاصل على وسام تقدير في مجال الصحافة عام 2004، تلاشي الصحف الورقية لحساب الالكترونية بالأمر المثير للسخرية.
وطالب جنكينز الذي سبق وان اصدر مجموعة من المؤلفات التي تعالج الهندسة المعمارية والصحافة والسياسة، بعدم الوقوع في خطأ إلغاء القديم من أجل التجربة الحية التي يبثها العصر الرقمي.
وضرب مثلا عن تراجع أرباح تسويق الاسطوانات الموسيقية خلال السنوات العشر الأخيرة، فيما لم تتأثر الحفلات الموسيقية الحية، "فقد أغلق في بريطانيا مثلا 40 متجراً لبيع الاسطوانات الموسيقية، في حين تذاكر حفلات ريحانة تباع بسعر 330 جنيهاً استرلينياً، والحصول على مقعد في حفل لمادونا يعادل ثمن شراء كل اسطواناتها الموسيقية".
ويشكل الاداء الحي للحفلات الموسيقية نسبة 80-90 في المائة من عائدات التسجيلات المباعة على الانترنت.
وقاد عدد من المشاهير تجمعات اسبوعية لتشجيع القراءة في الاماكن العامة بمشاركة قراء من مختلف الاعمار، فيما تضاعف جمهور دور السينما والاوبرا والمتاحف.
وفي اشارة الى دور التفاعل الحي بين السياسيين والجمهور، أثار سايمون جنكينز تدافع السياسيين على اللقاءات المباشرة والندوات وجهاً لوجه وتفضيلها على ندوات التلفزيون. مؤكدا ان مثل هذه اللقاءات لم تكن شائعة بالقدر نفسه قبل عشرين عاماً.
وقال ان تصاعد جمهور المتاحف والصالات الفنية كما يحدث في متحف اللوفر والمتروبوليتان في نيويورك، يمكن ان يعوض عن نسب القراءة المتواضعة في المهرجانات الادبية وانحسار القراءات الشعرية.
وتوصل جنكينز الى ان احد أسباب هذه العودة يعود إلى الملل والفرار من شاشة الكمبيوتر والتلفزيون مساء إلى أجواء طبيعية وفي عطلات نهاية الاسبوع.
واستشهد بتفسيرات علمية تشير الى ان التطبيقات الالكترونية للكمبيوتر تساهم في ابطاء النمو الطبيعي للدماغ، والادمان على الانترنت يضعف التجربة العقلية في تدرجها، فيما يسعى الانسان بطبعه الى الرقي بذاته وعدم الوقع أسيرا في واقع افتراضي.
واكد ان بعض مدارس ولاية كاليفورنيا الاميركية قد منعت استخدام الكمبيوتر أصلا فيها، والطريف أن المدراء الكبار في شركات جوجل وياهو وأبل يرسلون أبناءهم إلى تلك المدارس حيث يستخدم الطباشير والسبورة والورق والقلم، أثر دراسة أكدت ان أجهزة الكمبيوتر تحول دون التفكير الإبداعي والحركة والتفاعل الإنساني.
أن ما يريد أن يقوله جينكنز هو أن من تعلم بالطباشير والقلم وكتب على اللوح الخشب والورق، هو من أقام صرح التقنيات التي نعيشها اليوم، أي أن الانجاز بشقيه الثقافي والتقني ينبغي أن يمر من بوابة التعليم الحقيقي والمتفاعل وليس فقط من خلال شاشة الكمبيوتر.
وتوصل الكاتب الذي يكتب عمودين اسبوعياً في صحيفتي "الجارديان" اليومية و"ايفنيج ستاندر" المسائية، الى ان العصر مابعد الرقمي، لن يجعل من شبكة الانترنت مقصدا في حد ذاتها ولكنها ستكون خارطة طريق اليه.
وقال "كلما ازدهرت فرص التعامل الجماعي كلما خف الشعور بالوحدة، وهذا لا يقدمه الجلوس الدائم أمام شاشة الكمبيوتر.
واوضح ان الرسائل النصية الهاتفية تمثل نافذة على العالم وليس باباً.
واختتم مقاله بالقول "لست من أعداء التكنولوجيا فالانترنت يعد أكبر مكافأة مبتكرة في حياة الانسان، الا ان العودة إلى الكياسة تبدو مبهجة، ولن اقبل بالقول ان الانترنت سيدفع بادمغتنا الى الهرولة، بل هو يخسرنا فرصة القدرة على قراءة جمل طويلة أو التعامل مع المعلومات المعقدة للغاية، والكثير من التحديق في الشاشات تكون سيئة للعينين وللظهر".
وياتي مقال سايمون جنكينز بعد ان حذر كاتب متخصص بالثقافة الرقمية من قيام الانترنت بتدمير صناعة الثقافة عبر القرصنة الرقمية وتفاقم جشع الشركات الالكترونية وسحق النتاج الموسيقي والسينمائي والصحفي.
وقال الكاتب روبرت ليفين في مقال نشرته صحيفة "الجارديان" في بعنوان "كيف دمر الانترنت سوق الافلام والموسيقى والصحافة" ان كبرى الشركات الأميركية لانتاج المحتوى الموسيقي والسينمائي فقدت مواردها لحساب القرصنة المتصاعدة على الانترنت.
واضاف ليفين مؤلف كتاب "رحلة بالمجان: كيف دمر الأنترنت صناعة الثقافة وكيف يمكن لصناعة الثقافة الدفاع" والذي صدرت طبعته الاميركية تحت عنوان "رحلة بالمجان: كيف دمرت الطفيليات الرقمية صناعة الثقافة وكيف يمكن لصناعة الثقافة الدفاع" انه كل الذي كان يباع صار مجانا سواء بشكل مباشر او عبر القرصنة الالكترونية.
وسبق وان استعان سايمون جنكينز بمقطع من اغنية الشاعر جوني كاش "يلعن عيونك!!" (damn your eye) في اتهام ودي للقارئ على الانترنت، بالمساهمة في خسارة الجريدة، حيث كان يطالبه أن يقبل دفع المال مقابل المرور إلى موقع الصحيفة على الانترنت.
وابدى جنكينز سروره لقارئ عموده الصحفي على موقع صحيفة "الجارديان"، لكنه سيكون مسروراً جداً، لو تكلف هذا القارئ نفسه الجهد والمال البسيط لشراء الصحيفة الورقية من الأكشاك، أو أتفق مع صبيان الصحف الذين يوزعونها صباح كل يوم من على دراجاتهم الهوائية.
واستعان سايمون جنكينز بصورة شاعرية عندما تمتزج رائحة الحبر مع رائحة الاشجار أمام المنازل عند توزيع الصحف.
لكنه يكتب وبشكل "فظ" الى حد ما، عندما يتهم القارئ على الانترنت بالاسهام في خسارة الصحيفة، "إنك تقرأ مجاناً، لا تدفع شيئاً مقابل ما أعرضه عليك"، ويصبح أكثر توتراً عندما يستعيد جملة الشاعر والموسيقي جوني كاش "يلعن عيونك!!" (damn your eye). وتحولت شتيمة الغزل الغنائي هنا إلى منقذ للتعبير عن فكرة، ألا يكون كل ما متاح على الانترنت مجاني.
وكان جوني كاش يتغزل بالعينين عندما لعنها، أما سايمون جنكينز فلعنها بطريقة لا تثير الغضب، لكنها توضح ما يتوق إليه.