فى تحليل ثقافى مستفيض، سعى الكاتب التركى أورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل فى الأدب للإجابة على سؤال كبير؛ عن أسباب تراجع الحلم الأوروبى بين الأتراك وغيرهم من الشعوب فى آسيا وأفريقيا ، معتبرا أن على الأوروبيين العودة لقيمهم الجوهرية التى جعلت أوروبا من قبل مركز الجاذبية لكل مثقفى العالم . ويقول باموق فى هذا التحليل بمجلة "نيويورك ريفيو": "فى طفولتى قرأت فى الكتب المدرسية أن أوروبا هى أرض الخيرات والأساطير، فلماذا يشحب الحلم الأوروبى الآن ويتراجع بشدة؟".
مصطفى كمال أتاتورك
وأضاف:"عندما كان مصطفى كمال أتاتورك يبنى جمهوريته الجديدة على أطلال الإمبراطورية العثمانية التى تمزقت فى الحرب العالمية الأولى، فإنه قاتل الجيش اليونانى، لكنه تمكن بعد ذلك وبمؤازرة جيشه من فرض اصلاحات تحديثية غربية ذات طابع اجتماعى وثقافى".
ولاحظ أورهان باموق أن هذه الإصلاحات ساعدت على تعزيز أوضاع النخب الجديدة للدولة التركية الأتاتوركية التى تحاكى الغرب وتتبنى الحلم الأوروبى، غير أنها بقت موضع جدل على مدى العقود الثمانية الأخيرة .ومنذ عامه الأول فى الجامعة كان زملاؤه يتناقشون بانزعاج حول غياب التنوير بالمفهوم الأوروبى عن تركيا، فيما يستعيد باموق مقولة المفكر العربى ابن خلدون فى القرن الرابع عشر عن ولع المغلوب بتقليد الغالب .
كانت المسألة حينئذ أقرب للحتمية التاريخية، كما يقول باموق وتتطلب بعض التفاصيل الفنية للتكيف مع الواقع الأوروبى، وكان الحلم الأوروبى الملون جياشا وعريضا حتى أن الكثير من المفكرين والساسة الأتراك الذين يتخذون مواقف مناهضة للغرب كانوا على حد قوله يعترفون بينهم وبين أنفسهم بقوة هذا الحلم وجاذبيته فى تركيا .
تراجع الحلم الأوروبي
ويتساءل أديب نوبل التركى: "ما الذى حدث حتى تراجع الحلم الأوروبى فى تركيا وشحب؟"، وهاهو يطرح عدة افتراضات للإجابة على سؤاله من بينها أن تركيا لم تعد فقيرة كما كانت فى الماضى عندما توهج هذا الحلم، أو أنها لم تعد مجتمعا زراعيا يحكمه الجيش، وإنما أمة ناشطة تحظى بمنظمات مجتمع مدنى قوية .
وفيما تتباطىء المحادثات الخاصة بانضمام بلاده للاتحاد الأوروبى دون أن تلوح لها نهاية حاسمة، يؤكد أورهان باموق أنه لايوجد أمل واقعى سواء بين الأتراك أو الأوروبيين فى انضمام تركيا لهذا الاتحاد فى المستقبل القريب، ومع ذلك فلا أحد يجرؤ على التفوه بهذه الكلمات علانية حتى لايكون هذا الاعتراف بمثابة القطيعة النهائية مع الحلم الأوروبى .غير أن باموق استدرك منوها بأنه يدرك أن بلاده بل ودول أخرى تخلت عن أوهامها بشأن الحلم الأوروبى، وأوضح أنه تأكد من ذلك عبر مناقشاته وحواراته ورحلاته الخارجية .
وأردف قائلا "إن قطاعا من الجيش التركى مع لفيف من الأحزاب القومية وبعض وسائل الاعلام الكبرى تشكل تحالفا كان وراء حملة ناجحة لتخريب المفاوضات الخاصة بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبى"، معتبرا أن هذا التحالف يتحمل جزءا من مسؤولية التوترات مع أوروبا، كما أن التحالف ذاته يستهدفه هو وكتاب آخرين عبر الدعاوى القضائية .
وفى الوقت ذاته حمل اروهان باموق أوروبا جزءا كبيرا من مسؤولية تنفير الأتراك مما يسميه بالحلم الأوروبى ، مشيرا إلى أن بلدا كفرنسا كان يشكل النموذج الملهم لأجيال متوالية من النخبة المثقفة التركية على مدى أكثر من قرن، غير أن فرنسا على وجه التحديد تبنت خلال السنوات الخمس الأخيرة توجها رافضا بشدة لفكرة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى .
كما شدد باموق على أن ضلوع أوروبا فى الحرب على العراق أثار غضبا عارما فى تركيا، بقدر ما تسبب فى خيبة أمل عميقة فى دول أخرى خارج الكتلة الغربية، وكان من المثير للحنق أن يتمكن الرئيس الأمريكى جورج بوش الصغير من سوق الأوروبيين للمشاركة فى هذه الحرب غير المشروعة وأن تظهر أوروبا استعدادا هائلا للقابلية للخداع .
ويقول أورهان باموق فى سياق طرحه المستفيض: "عندما ينظر المرء من اسطنبول للمشهد الأوروبى، فإن أول مايسترعى انتباهه ذلك الارتباك الكبير فى مواجهة المشاكل الداخلية، فيما تبدو شعوب أوروبا أقل خبرة بكثير من الأمريكيين على صعيد التعايش مع الآخر المختلف فى العقيدة أو اللون والهوية الثقافية، كما أن الأوروبيين لايرحبون بالأجانب وهى مسألة من شأنها إضفاء المزيد من التعقيدات على مشاكلهم الداخلية".
وضرب باموق مثلا بالمناقشات التى دارت مؤخرا فى ألمانيا بشأن الأقلية التركية، مشيرا إلى أن هذه المناقشات أظهرت تزمت الألمان حيال التعددية الثقافية، فيما أوضح أن الأزمة الإقتصادية التى تضرب أوروبا الآن لن تساعد بالضرورة فى اتخاذ مواقف أقل عداء للأجانب.
ومضى الكاتب التركى الشهير فى تحليله الثقافى للمشهد فى أوروبا وتراجع الحلم الأوروبى ليقول:"عندما انظر لمدينتى أسطنبول التى تصبح أكثر تعقيدا وعولمة مع مضى الأعوام لتجذب المزيد من المهاجرين من بقاع آسيا وافريقيا فإننى لا أجد صعوبة فى استخلاص أن هؤلاء الفقراء والعاطلين والذين لاحول لهم ولاقوة لايمكن أن يبقوا خارج أوروبا لأجل غير مسمى".
واختتم باموق طرحه متسائلا: "بمقدور المرء أن يتفهم أسباب قلق إن لم يكن ذعر العديد من الأوروبيين حيال مسألة الحفاظ على التقاليد الثقافية العظيمة لأوروبا والاحتفاظ بمكاسبهم التى حققوها عبر قرون عديدة وبعضها تحقق بفضل حروب استعمارية وعمليات نهب لخيرات العالم اللاغربى، ولكن إذا أرادت أوروبا أن تحمى ذاتها فهل الأفضل أن تنكفىء على الذات، أم أن عليها أن تتذكر قيمها الجوهرية التى جعلتها يوما ما مركز الجاذبية لكل مثقفى العالم؟".