فلسطين القرن السابع عشر فى نظر فقيه مغربى وتاجر انجليزى" دراسة مستفيضة وطريفة لنبيل مطر أستاذ الأدب الانجليزى فى جامعة مينيسوتا، نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية فى عددها الأخير لخريف عام 2011. والدراسة مقابلة بين روايتين تاريخيتين عن فلسطين هما "الرحلة العياشية" التى كتبها الفقيه المغربى ابو سالم عبد الله بن محمد العياشى عام 1663 ورواية كتبها رحالة انجليزى يشار له بالاختصار المكون من حرفين "تى بى" عام 1669 وكان من المعتقد حتى وقت قريب ان اقدم النصوص التى كتبت عن فلسطين فى القرن السابع عشر هى "الحضرة الاندلسية فى الرحلة القدسية" التى كتبها فقيه الشام عبد الغنى النابلسى عام 1690 .
ويضاهى نبيل مطر فى دراسته التاريخية الطريفة بهذه المجلة المحكمة التى تصدر من بيروت بين رحلتى العياشى و"تى بى" ويعقد مقارنات لرصد الفوارق الكثيرة بينهما والاختلاف البين فى الوقائع وهو مايفسره مطر صاحب كتاب "اوروبا فى عيون عربية" بالتباين الثقافى والدينى بين صاحبى الرحلتين، رغم أن كليهما كان يبغى السفر إلى "أرض مقدسة".
فالعياشى فقيه مغربى قدم أول وصف عربى لفلسطين بعد الفتح العثمانى و"تى بى" تاجر انجليزى متأثر بمرجعيته الثقافية والدينية وكان يعمل أيامئذ فى حلب بأحد مراكز "شركة المشرق التجارية" وهى شركة انجليزية الترخيص تأسست عام 1581 لتنظيم التجارة الانجليزية فى بلاد المشرق.
واعتمد العياشى طوال رحلته فى فلسطين على كتب ورسائل التوصية والتعريف التى وفرت له أسباب الراحة وضروب التواصل الدينى وإحساس الجماعة والألفة وبما يكشف عن "تلك الشبكة التاريخية والفقهية التى قامت فى عالم الإسلام، حيث كان الفقهاء يعرف بعضهم بعضا من مكة إلى القدس ومن بعلبك إلى فاس".
وقد لفت انتباه العياشى ما رآه فى غزة من القصور والمنازل والبساتين والأشجار و"وجدها بلدا فسيحا ومنظرا رائقا وأسواقا حافلة وأسعارا رخيصة وفاكهة كثيرة"، فيما اكتشف وهو المتشوق للمزارات الدينية أن فى غزة مزارات كثيرة ومساجد عظيمة ومن بينها ضريح الإمام الشافعى.
وحسب هذه الدراسة المشوقة فقد مر الفقيه المغربى العياشى بعسقلان ثم وصل إلى خان يسمى "خان اردود" وهو منزل معلوم تنزله القوافل الآتية من مصر على الطريق السلطانية بين مصر والشام واسطنبول. وفى عام 1516 اصبحت فلسطين جزءا من ولاية الشام العثمانية، حيث أجرى العثمانيون بآلتهم الادارية الشديدة الكفاءة عمليات مسح للسكان والضرائب والانتاج الغذائى والجماعات والطوائف الدينية.
ورغم تبعيتها لولاية الشام تمتعت فلسطين بقدر من الاستقلالية ميزتها عن بقية أنحاء الولاية العثمانية الكبيرة، كما تكشف الدراسة التى تنقل عن الفقيه العياشى إعجابه البالغ بمفتى الرملة الشيخ خير الدين الرملى وهو من خريجى الأزهر الشريف فى مصر.
وشعر العياشى بالراحة فى القدس وهى مقصده الأهم فى رحلته، موضحا أن عدد الزوار المغاربة كان كبيرا جدا حتى ان هناك زاوية غرب قبة الصخرة سميت بزاوية المغاربة ، فيما يصف المسجد الأقصى بأنه آية من ايات الله فى فخامة البناء وسعة المقدار وفيه أشجار كثيرة من التين والزيتون، أما الأروقة التى داخله والبيوت التى خارجه "فشىء كثير".
وعن قبة الصخرة - قال الفقيه العياشى انها فى وسط المسجد "ماثلة فى الهواء " مثمنة الشكل لها اربعة ابواب دون القبة وحيطان القبة وارضها كلها مزخرفة بأنواع الفسيفساء المصبوغة بأصباغ مختلفة ونقوش عجيبة".
التقى العياشى الكثير من البشر وانخرط فى جماعة من الصوفية والزهاد من أرجاء العالم الإسلامى، لم تحل بينهم حدود قومية أو لغوية ففى فلسطين اممية تجذب البشر من كل مكان وقاضى الخليل الذى التقاه كان الشيخ محمد النفاتى التونسى الذى قدم من اسطنبول متقلدا لقضاء القدس.
وفى مدينة الخليل زار الفقيه العياشى قبر خليل الله سيدنا ابراهيم وقبور بنيه الكرام سيدنا اسحق ويعقوب ويوسف والقبور كلها فى مغارة تحت أرض المسجد وفى المغارة طاقة مفتوحة فى وسط المسجد مثل البئر قد علقت فيها مصابيح توقد ليلا ونهارا.
بعد ستة أعوام على رحلة العياشى-سافرت جماعة من الانجليز الى فلسطين من بينهم "تى بى" وكانت الرحلة حسب هذه الدراسة "بحثا عن الطرائف والنوادر" ولم يقدم "تى بى" لقرائه تجربة دينية مكثفة، وإنما جولة مدروسة بمقاربة منهجية فى الأماكن والقرى والطرق والممارسات الإدارية والسياسات المالية.
ودراسة "تى بى" بعنوانها "رحلة الى القدس"- كما يلاحظ نبيل مطر- شديدة الحياد ومثقلة بالمعلومات، غير أنها تتضمن مقدمة مسهبة تؤكد على الأهمية الدينية لفلسطين وهو يسميها "بالأرض المقدسة".
ويرصد "تى بى" المنتمى للمذهب البروتستانتى وجود الكثير من الأبنية الفخمة والرائعة بالقدس ويصف عظمة كنيسة القيامة، موضحا أنه أقام خلال الزيارة فى دير اللاتين، حيث أهداه أباء الدير كتابا باللاتينية يحتوى على أناشيد مقدسة لكل موضع.
ولم يشعر "تى بى" بالخطر يتهدده فى أى لحظة من لحظات رحلته منوها باجلال المسلمين للمواقع المسيحية، وأن المسيحيين والمسلمين معا يوقدون المصابيح والشموع فى كنيسة مريم.