تعيد موجة الاحتجاجات العمالية الحالية الى الاذهان كل الجدل الذى دار خلال فترة إعداد الموازنة العامة للدولة فى يونيو الماضى، والتى وصفها البعض آنذاك ب«موازنة العاشر من فبراير»، فى إشارة إلى أنها لم تشمل أية تعديلات جوهرية عن سياسات النظام السابق سواء فى اولويات إنفاق الدولة، أو السياسات المالية والضريبية، بما يخفف من اعباء معيشية ضاغطة وصلت بالمجتمع الى الحالة الثورية التى استمرت لثمانية عشر يوما، برغم الممارسات القمعية التى واجهتها. وأمام مطالب المعلمين وعمال النقل وغيرهما، يتمسك وزير المالية حازم الببلاوى بتصريحاته التى أدلى بها منذ خلافته لسمير رضوان، بعدم إجراء أى تعديل فى الموازنة، فى ظل معدلات عجز قاربت من المستويات الخطرة، وتباطؤ اقتصادى مستمر بسبب عدم وضوح خريطة التحول الديمقراطى، إلا أن الخبراء يرون أن الحكومة بيدها الخروج من هذا المأزق من خلال تطبيق سياسات أكثر عدالة فى توزيع الدخل بين فئات المجتمع المختلفة.
«الشروق» تعرض ملامح المشهد المعقد بين أزمة محدودية الموارد ومطالب لا تحتمل التأجيل.
لا تعتزم وزارة المالية تخصيص أى مبالغ إضافية عن المقررة فى الموازنة لتلبية مطالب العمال، «الناس كلها متحاملة علينا وبتقولنا حرام عليكم.. طب هانجيب منين»، على حد قول وزير المالية ونائب رئيس الوزراء، حازم الببلاوى، للشروق، مؤكدا «محدودية الموارد لدى وزارته فى الوقت الحالى».
ومع عدم قدرة المالية على توفير موارد للوزارات والهيئات التى يضرب موظفوها وعمالها للحصول على قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، طالب الببلاوى تلك المؤسسات بإعادة هيكلة ميزانيتها الداخلية لتوفير موارد، «وزارة التعليم ستقوم بإعادة هيكلة المبالغ المخصصة لها فى الموازنة لتوفير موارد لحافز الإثابة الذى وعدت به المعلمين، كما أن هيئة النقل العام ستقوم باستخدام موارد لديها لتوفير الجزء الأكبر من ال128 مليون جنيه التى وعدت بها العمال، أما المالية فلن تخصص أى مليم إضافى»، بحسب وزير المالية.
وهو ما أكده وزير القوى العاملة، أحمد البرعى، مضيفا أن الحكومة فى مأزق، فهى لا تمتلك موارد لمواجهة مطالب الاحتجاجات «الفئوية» وفى نفس الوقت لا تريد أن تضغط على عجز الموازنة «إحنا كنا بنشتكى إن الحكومات التى سبقتنا طالما رفعت العجز وهو الأمر الذى مازلنا ندفع ثمنه حتى الآن، فكيف نقع نحن فى هذه المشكلة أيضا؟».
كانت مصر قد شهدت فى الفترة الأخيرة موجة متصاعدة من الاحتجاجات العمالية فى قطاعات مختلفة تابعة للدولة، كان العنصر المشترك بينها هو المطالبة بصرف حافز الإثابة 200% من الأجر شهريا، وتعود مطالب العمال بصرف هذا الحافز إلى القرار الحكومى الذى صدر بصرف تلك الحوافز لعمال الجهاز الإدارى للدولة والمحليات والجهات الخدمية، على أن يصرف الحافز للذين تنخفض حوافزهم عن نسبة 200%، وذلك بنسبة متدرجة ترتفع بحوافزهم إلى ال200%، وهو الإجراء الذى اعتمدت عليه الدولة فى رفع الأجور الحكومية المتدنية إلى الحد الأدنى للأجور عند 700 جنيه، ولذلك تطالب العديد من القطاعات العمالية التابعة للدولة بالاقتداء بهذا القرار.
وأبدى البرعى تعاطفه مع عمال النقل العام، معتبرا أن مطالبهم «مشروعة تماما، أنا أعذرهم بشدة وأعلم أنهم مظلومون ولا أعرف إذا كنت مكانهم ماذا كنت أفعل.. ولكن العين بصيرة والإيد قصيرة، فالحكومة أيديها مغلولة»، بحسب تعبيره، مضيفا أنه أيضا «يدرك جيدا أن الذى تطلبه الحكومة من العمال يعتبر مستحيلا، ولكنى لا أستطيع أن أخرب البلد لكى أرضى فئة». وتبعا للبرعى، الذى فوضه رئيس الوزراء، عصام شرف، للتفاوض مع عمال هيئة النقل العام، فإن الهيئة كانت قد أعدت خطة فى بداية العام الحالى، أى قبل بدء الاحتجاجات، لزيادة الأجور والحوافز، وإن كانت بنسب أقل مما يطالب بها العمال حاليا، ولكنها فى حدود موارد الهيئة.
ولقد أخذ المسئولون فى النقابة هذه الخطة ودرسوها وكانوا «مبسوطين بها وراضين عنها فى البداية»، على حد قول البرعي، إلا أنه عندما خرجت مظاهرات واحتجاجات لفئات أخرى، مثل المعلمين، وطالبت بحافز الإثابة ال200% وزيادة فى الأجور أعلى من المقرر فى خطة الهيئة، أصبح العمال غير راضين عن الخطة وطالبوا بزيادات أعلى, ومهما حدث فلن تخصص لنا المالية أى مبالغ إضافية، وبالتالى ستلتزم الهيئة بخطتها الأولية لزيادة الأجور كخطوة أولية، حتى نعبر هذه الأزمة وتتوافر موارد للحكومة، بحسب تأكيد وزير القوى العاملة، معتبرا أن «الحكومة مش غاوية مشاكل.. فلو كان عندها موارد ماكنش ده هايبقى رد فعلها مع الاضطرابات», كما أن مطلب العمال المتعلق بتغيير صفة الهيئة وتحويلها إلى هيئة «خدمية» بدلا من «اقتصادية» يعتبر «مستحيلا فى الوقت الحالى»، على حد قوله، مضيفا أن هذا الأمر يستلزم أن يصدر بقانون من مجلسى الشعب والشورى، ولا يتمكن المجلس العسكرى من إصدار مثل هذا القانون، كما يقول البرعى، الذى «يعذر الشعب أنه لا يشعر بأن الحكومة الحالية مختلفة عن الحكومات السابقة».