استضافت إحدى القنوات الخاصة في برنامجها الحواري مساء 16 يوليو الجاري أربعة من كبار الكتاب لتحليل ما عساهم يرونه من تغيير وزاري وشيك وما يلتمسونه من آثاره، وبعد أن قارب المتحاورون بلوغ استخلاصاتهم النهائية، أجرى السيد اللواء قائد المنطقة المركزية العسكرية مداخلة على الهواء معهم رداً على تفصيلات ما قالوه. وبغض النظر عن كثير من حديث سيادته مما لا نتوقف عنده فإن جانباً هاماً يستأهل أن نوليه اهتماماً ونرد عليه، وأعني: رفضه لما قيل به بذات الجلسة من توصيف لعلاقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بشعب مصر عقب ثورة يناير باعتبارها وكالة عنه، وإصرار سيادته على تكييفها بأنها شراكة له؛ فضلاً عما ألقاه حديثه من ظلال قد تشي بفهم معين "لصورة" ما حدث منذ 25 يناير، والتي أحسبها حاكمة بطبيعتها لأي توجه كلي أو جزئي للمجلس الموقر، بما يستوجب كذلك التوقف عند نقطة نظام أراها – بتواضع المخلصين – مفتاحاً لكل حوار، وبداية لأية مقاربة، وأساساً لأي قرار. وأبدأ بالثانية، وأعني: نقطة النظام، وحاصلها: أن ما جرى في مصر منذ 25 يناير هو في جوهره "ثورة شعبية" بالمعنى العلمي والمضمون التاريخي للمصطلح، فالثورة كانفجار سوسيولوجي هائل، هي الفعل التاريخي الذي يباشره شعب وطن ما بتولي طلائعه ونخبه وكتلته الرئيسية تغيير نظام حكمه بالقوة وخارج الأطر والآليات المحددة بالدستور، من نظام قائم لم يعد يفي بتطلعات ذلك الشعب، إلى جديد يسهم في صياغة مستقبله على نحو ما يريد، وذلك عملاً بالحق التأسيسي والفوق دستوري والغير قابل للتصرف، لأية أمة، في مقاومة الطغيان. ونتيجة ذلك، بالحتم وبالضرورة، أن ثورة يناير تستهدف وبالأساس، اجتثاث النظام الاستبدادي القمعي السابق، وتأسيس نظام ديمقراطي وطني جديد، له من النضج والتجذر ما يعصمه من الزلل ويقيه من محاولات الانقلاب عليه ويحميه من الانتكاس. ليكون قيامه شرطاً وإطاراً، لعمل وطني خلاق ومتصل، بناءً وتنمية، وعدلاً وكرامة. ولأن التحديد الصحيح لطبيعة 25 يناير والتعيين الدقيق لمحوري النتائج الحتمية له، يعدا - معاً - مفتاحاً حاكماً لكل حوار ولأي قرار، فإن الحاجة تقوم للتذكير بهما والإشارة إليهما، كلما تداعت الأحداث أو انساقت الحوارات في مسار مختلف، بحسبانهما نقطة نظام لتصحيح الحوار وإعادته لمنطقه، ولتصويب المواقف استعادة لقراءة المشهد الكلي لتتسق معه. أما التحاور النظري أو التصرف العملاني على الأرض، من خلفية أن ما حدث لا يعدو كونه هبَّة، أو انتفاضة، أو ردة فعل وقتية، أو أن ما رتبته من نتائج للآن كافٍ لتهدئة ما قادت إليه من دوافع؛ فلا يمكن أن يفضي لما يقصد منه – مع حسن الظن بأصحابه ونواياهم – وذلك بسبب ما راكمه النظام القمعي السابق من خطايا خلال النصف الثاني من عمره المديد وتحديداً منذ الانكشاف المفضوح لمؤامرة اغتيال روح النظام الجمهوري واستلاب جوهره، فيما ورد بخطاب المساعي المشكورة الشهير، وما أعقبه من تعديل للمادة 76 وما تلا ذلك حتى يناير؛ وهو ما راكم بدوره، وبمتوالية هندسية تفوقه حجماً وأثراً، مشاعر الغضب الوطني النبيل حتى انفجر مرجله الملتهب فكانت الثورة. ولا تزال الكتلة الحرجة لمكبوت ذلك الغضب على حالها، لم ينخفض معدلها، ولم يتراجع حجمها، ولم تهدأ نيرانها. بل إن العكس هو الصحيح، مع التباطؤ في اجتثاث القديم وتطهير البلاد منه، والتباطؤ في التأسيس للجديد من بعده. وأذكر هنا فقط بأن التعاطي الخلاق باقتلاع جذور القديم لم يكن طيلة الأشهر المنقضية إلا أثراً مباشراً لجهد شعبوي وبأحكام قضائية، هكذا كان الحال في الحل القضائي لحزب النظام القديم وتشكيلاته، وللإدارة المحلية ومجالسها، وهو ما لم يعقبه أي عمل تنظيمي وتنفيذي على الأرض يباعد ما بين عناصر النظام القديم وأدوات التأثير الجماهيري، والتي لا تزال فاعلة وبهمة وعلى كافة الأصعدة. ولسوف يظل مكبوت ذلك الغضب هو الضامن الوحيد لاستمرار الثورة حتى بلوغ غايتها، وهو ما لا ينبغي على حصيف أن يسقطه من حساباته وإلا كان مغامراً لا يقدر لقدمه موضعها. وأما عن الأولى المرجأة، وأعني: توصيف علاقة المجلس الأعلى بالشعب عقب الثورة، أو بالثورة ذاتها كفعل تاريخي للشعب، ورفضه لاعتبارها وكالة عنه، وتأكيده على كونها شراكة له، بما يفضي إليه التكييف، وما يشير إليه، فليسمح لي سيادته بإبداء ما يلي من ملاحظات: (1) أن الإعلان الدستوري القائم – ومن قبله الدستور السابق – قد حسم التكييف الدستوري والقانوني والسياسي – من قبلهما – لتلك العلاقة، بقوله: أن القوات المسلحة "ملك" للشعب. وعلاقة المِلك هذه، تنفي تصور الشراكة، والتي لا تقوم إلا بين كيانات منفصلة عن بعضها، ومستقلة بذاتها، وندية في علاقتها، من المنظور القانوني على الأقل. (2) أن علاقة المِلك وإن أمكن تصورها كأمر طبيعي في صلة شخص محدد بشئ ما، باعتبارها علاقة "عينية" ومرتبة لآثار من ذات الطبيعة، بما يمكن تصوره في علاقة الشعب بالسلاح مثلاً، فإن وصف علاقة الشعب "بالقوات" بناءً عليها قد يكون مستغرباً، فالقوات بطبيعتها تعبير عن منظومة "الرجال والسلاح معاً"؛ ولكن ذلك الاستغراب يزول ويرتفع ظنه، ولا يفضي تصريحاً أو تلميحاً لأي إقلال لقدر معلوم، أو تجاوز لقيمة محفوظة، إذا ما استحضرنا مأثور تراثنا الديني من جهة، وبلاغيات لغتنا من جهة ثانية، واستجلينا شخص المالك وما يملك من جهة ثالثة. فالقول بأن القوات "مِلك" للشعب يعني رفعة لمقامها لا العكس، وتقديراً للمهام الوطنية المنوطة بها لا العكس، واعتبارها جزءاً عضوياً لا ينفصم عنه لا العكس، وذلك طالما انطلقنا من أن الشعب هو صاحب السيادة الأصيل، وأنه لا سيد على أرضه سواه. (3) أن تصور العلاقة في إطار الشراكة لا الوكالة، لا يمكن أن يصح إلا مع التسليم بنظرية "شركة الشخص الواحد" أو قياساً عليها في النطاقين السياسي والدستوري، فإن قيل بها أو قيس عليها، فإن الأمر سيفضي نظرياً لذات ما قلنا به، لأن مالك شركة الشخص الواحد، سيبقى دون غيره، هو صاحب الإرادة، ومتخذ القرار، بما يجعل من الشركة في النهاية مجرد أداة عضوية له في أداء وظيفة بعينها، وليست تعبيراً عن تعدد أطراف أو تساويهم أو نديتهم. (4) ولذلك فإن الصياغة الدستورية القائمة، والتي نراها محكمة ودقيقة، والتي عبرت عن علاقة الشعب بقواته المسلحة بأنها من قبيل المِلك، بحسبانها أداة الشعب في حيازة السلاح وفي الزود عن الوطن، تعد هي المحددة لطبيعة تلك العلاقة ونتائجها بما لا يستقيم معه تصور الشراكة بينهما. (5) فإن بقى الظن بأن القوات المسلحة شريكاً للشعب في الثورة، فينبغي أن يُفهم الأمر على نحو صحيح من حيث الفلسفة السياسية، فالقول بأن الشعب هو صاحب الثورة، وأن الثورة هي صنيعة الشعب وفعله التاريخي وحده، لا ينفي عن كل أصحاب المساهمات النضالية السابقة والمتزامنة واللاحقة على يناير، بل وحتى أصحاب النوايا الوطنية المبشرة بالثورة والمؤيدة لها داخل الوطن وخارجه، ممن حُرموا شرف الخروج لها، هم أيضاً شركاء فيها. (6) وعلى ذلك، فكلنا شركاء – بذلك المفهوم – في الثورة، طالما أردناها وسعينا لها سعيها، وآمنا بحتميتها، ولم تتلوث أيادينا من قبلها بالمشاركة في مؤامرة اختطاف مصر وإفساد حياتها وتأزيم مسارها وتلغيمه، لأن الثورة ومن منظور سوسيولوجي، تعد نشاطاً إنسانياً ملحمياً بامتياز، تحتشد فيها صوراً وتجليات وأفعالاً لحركة جموع وآحاد الجماعة الوطنية بأسرها، كنموذج إنساني فارق للانعتاق مما قبلها، ولذلك فلابد بطبيعتها أن تحوي من البطولات والوعي بالزمن وبالضرورة وبحركة التاريخ، بذات قدر ما تتحمل أثقاله من نقائص وأكاذيب وادعاءات واهتبال فرص. فهي نشاط ملحمي جماعي خارق للعادة، قاطع للسكون، محرك للركود، دافع لحركة الجماعة الوطنية إلى الأمام. (7) فإذا اتفقنا على ذلك كله، وحررنا مفهوم الشراكة مما قد يلتبس به، وفهمناه في إطاره الفلسفي الاجتماعي والسياسي الصحيح، ووافقنا من تمسك به تشخيصاً وتوصيفاً للعلاقة بين الشعب وقواته المسلحة، .. لوجب علينا أن نعيد الأمر إليه من حيث بدأه هو، فنسأله عن التزاماته كشريك في الدفع بها – وهو من يدير شؤون البلاد انتقالياً – ويحوز دون الشعب على نحو احتكاري وباسمه ولحسابه أدوات الإجبار، أن يسارع بإكمال مهمة اجتثاث جذور النظام القديم وتسريع محاكمات رموزه، وأن يسارع كذلك وعلى نحو صحيح بالتقدم على طريق تأسيس النظام الجديد، بوضع الدستور والاستفتاء عليه، وإجراء انتخابات الرئاسة إنهاءً للمرحلة الانتقالية، ووصولاً بالوطن لما نصبوا جميعاً إليه كشركاء في ثورته. فالشراكة في الثورة تنشئ في ذمة الشريك التزاماً يتحمل به ما بقيت شراكته قائمة، وهو ما نأمل من المجلس الأعلى أن يعمل من أجله، إدارة للعهدة الوطنية التي نيطت به انتقالياً – وهي ليست أقل ولا أدنى من عهدة الحرب – بذهنية ونفسية شركاء الثورة، بلوغاً للنصر.