هل كانت أونغ سان سو تشى استمرت فى نضالها من أجل تحقيق الديمقراطية فى بورما لو لم يكن الإعلام الغربى مسلطا عليها وحاميا لها؟. وهل كونها امرأة هو العامل الذى لفت إليها الأنظار وجذب انتباه الإعلام الغربى الذى أسبغ عليها لقب المرأة الشجاعة؟ السؤالان على أهميتهما أثارا عندى رغبة ملحة فى مناقشة موضوع آخر. كان الأقدمون يعتقدون أن الشجاعة صفة لصيقة بالذكور، ذكور البشر وذكور الحيوان، حتى إن كلمة شجاعة Andreia فى لغة الإغريق جاءت اشتقاقا من كلمة رجل. ساد هذا الاعتقاد لدى شعوب أخرى، ومازال كذلك فى ثقافات شرقية عديدة، ومع ذلك تعددت إيماءات من بعض مفكرى تلك العصور تكشف عن تمرد على هذا الاعتقاد. من هؤلاء أرسطو الذى لم يكن شديد الحماسة فى تأييده فكرة أن الشجاعة فضيلة ذكورية، حتى إنه حاول التخفيف منها فصاغ عبارة تقول «إنه أسهل على الرجال أن يكونوا شجعانا وأسهل على النساء أن يكن معتدلات ورقيقات». وفى عصر لاحق رفض كيبلنج الرأى القائل بأن الاعتدال صفة لصيقة بالمرأة، ويرد بقوله إن الأنثى فى عالم الإنسان، كما الأنثى فى عالم الحيوان، مخلوق أشد فتكا من الذكر. ومع التوجه التصالحى الملموس لكثيرات من مشاهير نساء اليوم وميلهن للعودة لاستخدام أساليب استرضاء الرجل مثل الكلمات التى استخدمتها كل من سارة بيلين المرشحة لمنصب نائب الرئيس فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة وميشيل أوباما عند الحديث عن زوجيهما. ذكرتنا كلماتهما بكلمة «سبعى» أو عبارة «يا ساند ظهرى» فى ثقافتنا الشعبية، ومع الطفرة فى زيادة عدد النساء المتفائلات بقرب التوصل إلى هدنة «تاريخية» فى الحرب الدائرة منذ عقود بين الرجال والنساء، أو بمعنى أدق بين الرافضين للمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة من جهة وبين الرافضات للتميز المطلق للرجل على المرأة، استجد النقاش مستفيدا من تطورات اقتصادية واجتماعية عديدة. دفعت هذه التطورات الطرفين إلى التوصل لفهم متبادل يقوم على إقرار النساء بأنهن لا يرغبن فى التحلى بصفات الرجال ولا يرغبن فى التخلى عن رقتهن واعتدالهن ويعترفن للرجال بأنهم مرغوبون من النساء بقدر الرغبة نفسها التى استمرت فيهن على مر التاريخ. مقابل هذا الإقرار من جانب النساء يقر الرجال للنساء بأنهن صاحبات حق فى القيام بأى دور يخترن القيام به، وأنهم أى الرجال لن يميزوا ضدهن ولن يقفوا عائقا أمام تقدمهن وتفوقهن. تقول النساء إن من حقهن أن توصف المرأة بالشجاعة إن اختارت سلوكا أو أداء يتسم بالشجاعة، فلا تكون الشجاعة حكرا على الرجال.. ألم تكن الشجاعة دائما ومنذ القدم قرارا شخصيا يتخذه الرجل عندما يواجه خصومه، وكانت دائما قرارا شخصيا تتخذه المرأة عندما يتعرض أطفالها أو بيتها للخطر؟! وإذا كانت الشجاعة، كما اعتبرها الإغريق وغيرهم من القدامى، إحدى الفضائل فلماذا تقتصر على الرجال، والفضيلة كما نعرف اختيارا وليست إجبارا أو التزاما نتيجة أمر أو نصيحة. يختارها الرجل بمحض إرادته وكذلك المرأة. إلا هذه الفضيلة، لا يجب أن تكون أهم الفضائل كما يحلو لبعض الأدباء وكتاب الرومانسية ودعاة الحروب توصيفها. هذه الأسبقية لمكانة الشجاعة فى سجل الفضائل يرفضها Bennet فى موسوعته الصادرة بعنوان «كتاب الفضائل»، حين يضعها فى المرتبة الثانية بعد «المسئولية». نتوقف هنا قليلا لنتأمل مغزى هذا الترتيب. كثيرا ما نسمع عن إنسان قام بأعمال تتسم بالشجاعة وفى ذهنه أن اسمه سوف يدرج فى قائمة شرف أو لائحة تقدير، ونعرف أن شخصيات «عظيمة» فى التاريخ أثارت جدلا مازال مستمرا حول «النوايا الحقيقية» وراء إقدامها وشجاعتها. تأتى فى هذا السياق، رواية جان دارك الصبية الفرنسية الفاتنة التى قصت شعرها وارتدت ملابس «الرجال» ودروعهم وامتطت حصانا وحملت سيفا أثقل من وزنها وقادت الفلاحين فى حرب ضروس ضد جيوش الإنجليز وأساقفة الكنيسة تحت شعار تحرير فرنسا والدفاع عن «الإمبراطور الصغير». دار جدل مشهود ومازال يدور حول شجاعة الفتاة الجميلة، وما إذا كانت هذه الشجاعة من أجل تحرير فرنسا وحماية الإمبراطور أم كانت لأن رؤية راودتها وأقنعتها بأنها قديسة بين البشر. وما «ثمن» هذه الشجاعة، أو بالأحرى ما ثمن أى شجاعة؟. أذكر ما كتبه جورج برنارد شو الكاتب الأيرلندى الشهير فى روايته عن جان دارك والمقارنة التى أجراها بخبث بين ثمن «شجاعة» المناضلة وقائدة حرب التحرير جان دارك وثمن «جبن» إمبراطور فرنسا وتردده أو رفضه مساعدة جيوش جان دارك التى كانت تحارب تحت راياته من أجله وأجل فرنسا. يقول برناردشو إن ثمن شجاعة جان دارك كان موتها «مشوية» فى النار وهى لم تتزوج ولم تعرف الحب ولم تنجب أطفالا، بينما احتفظ دوفنى (الإمبراطور) بعرشه حتى مات ميتة طبيعية على فراشه وعمره تجاوز الثامنة والخمسين، وهو عمر متقدم جدا بحسابات تلك الأيام، مخلفا وراءه زوجة وعشيقتين وأربعة أطفال. يحاول برناردشو الإيحاء بأن شجاعة جان دارك كان دافعها الإثارة أكثر من أى شىء آخر، فينقل عنها عبارتها الشهيرة «كنت أخاف كل الخوف قبل دخول المعركة، ولكن بعد المعركة وزوال الخطر كاد يقتلنى الملل.. الملل.. الملل..». الشجاعة بهذا المعنى ليست صفة من صفات الذكور فقط، وليست صفة دائمة، وليست بالضرورة فى كل الظروف والملابسات، ومع كل الأشخاص، أفضل الفضائل، وإن ظلت بين الأفضل. تبقى الشجاعة دائما اختيارا للفرد ذكرا كان أم أنثى، وإن بدوافع مختلفة. صحيح القول: إن الشجاع يعيش حياة أقصر من حياة الجبان، ولكن الصحيح أيضا القول: إن الحياة مضمون ومعنى وليست فقط سنين وأياما.