عاد نتنياهو من واشنطن دون أن يحقق شيئا من أهدافه، لكن دون أن يقبل الرؤية الأمريكية للمصالح الحيوية الأمريكية فى الشرق الأوسط والتى تعتبر أن عتبة الاستقرار فى المنطقة هى قبول إسرائيل «حل الدولتين» فى فلسطين. وأن الخطوة الأولى المطلوبة لارتقاء تلك العتبة هى قبول إسرائيل والتزامها وتعاونها فى تنفيذه. وكما لم يحصل نتنياهو على شىء، ينطبق الحال نفسه على أوباما الذى وضع مواصفات للدولة الفلسطينية المنشودة توازن بين «احتياجات إسرائيل الأمنية» دولة منزوعة السلاح وعودة اللاجئين إلى تلك الدولة دون ما وراء الخط الأخضر، أى أراضى الدولة الإسرائيلية فى الحدود التى يعترف بها العالم. وبين بعض الاحتياجات الفلسطينية دولة على أرض متواصلة بريا وقادرة على الحياة. ورأى أن هذا يتطلب «وقف الأعمال الاستيطانية». ويبدو أن نتنياهو باعه هذه النقطة الأخيرة، إنما على الطريقة الإسرائيلية، ففور عودته إلى إسرائيل، شمّر وزير دفاعه إيهود باراك عن ساعديه وأعلن العزم على إزالة «البؤر الاستيطانية» و«لو باستخدام القوة». تلك البؤر مجرد هامش على الوضع الاستيطانى. ما أخطأ فيه أوباما فى هذه النقطة هو أنه لم يطلب إنهاء الاستيطان، كما سبق أن صرح نائبه جوزيف بايدن صاحب السجل الطويل فى التصويت البرلمانى لصالح إسرائيل. الأهم أن أوباما لم يقبل ب«أولوية الخطر الإيرانى». التتبع الدقيق لمغزى ما انتهت إليه تلك المحادثات ينتهى إلى أن نتنياهو عاد بما هو أثقل من «خفى حنين». عاد وتحت إبطه بذور نزاع آخر لم تعرفه إسرائيل من قبل، نزاع مع راعيتها الرءوم الولاياتالمتحدة. مداره أيهما أولى بالرعاية، المصالح الأمنية الأمريكية أم نظيرتها الإسرائيلية؟ نزاع بطبيعته لا يتميز بالمرونة التى يتطلبها حله بالتفاوض. فمن ناحية واشنطن، ترى تماهيا بين أمنها وأمن العالم وتدرك أنها لا تستطيع اتخاذ قرارات نيابة عن العالم. ومن ناحية إسرائيل، المشكلة أن فى نظرها أى تهديد لها هو تهديد وجودى ولا أحد يضع وجوده على مائدة المفاوضات. كيف تمكن معالجة ذلك النزاع؟ الممكن الوحيد هو أن يفرض أحد طرفيه إرادته على الآخر. فى ميزان من هذا النوع، إسرائيل ليست هينة على نحو ما توحى موازين الواقع.. الحجم والثروة وغيرهما من المقومات. فعلى مدى أربعين عاما من عمرها الذى لم يزل قصيرا، أى ثلثيه اعتادت إسرائيل أن تفرض إرادتها على الولاياتالمتحدة، حتى أدمنت ذلك. فمنذ انتخاب رونالد ريجان فى نوفمبر 1979 وتوليه السلطة فى مطلع العام التالى، امتلكت إسرائيل ناصية السياسة الخارجية الأمريكية ليس فيما يخص الشرق الأوسط فقط، إنما مجمل السياسة الخارجية، نزع السلاح، إدارة حظر الانتشار النووى، صادرات التكنولوجيا المتقدمة من الولاياتالمتحدة إلى بقية العالم، صادرات السلاح الأمريكى، فرض مشاركتها فى إنتاج أسلحة بعينها عن طريق الاشتراك فى مرحلة البحث والتطوير، «بتمويل أمريكى»، بغرض تحييد قيود القانون الأمريكى على استخدام السلاح الأمريكى المنشأ، الموقف الأمريكى من إجراءات زيادة تماسك الاتحاد الأوروبى، العلاقة مع كل من روسيا والصين. كان مدخلها دائما هو «ما يمكن أن يهدد أمن إسرائيل.» وكانت عدتها هى «الخبراء» الموالين لها والذين يوزعون على الرأى العام «خبرتهم» حتى لو لم يطلبها أحد. هذا، إلى جانب العدة المعروفة «اللوبى» الصهيونى فى الولاياتالمتحدة. وقصته معروفة لا تحتمل التكرار. على أن ذلك «اللوبى» تخلى عن لياقة الكتمان منذ استقرار رونالد ريجان فى البيت الأبيض. أنشأت هيئته الرئيسة اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة المعروفة اختصارا باسم إيباك مركزا أطلقت عليه «مركز واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، درج على أن يستبق كل رئيس بكتيب يصدر أثناء الحملة الانتخابية، موحد العنوان «جدول أعمال الرئيس التالى». جدير بالذكر فى هذا السياق أنه فى سياق الحملة الانتخابية الأخيرة، استبدل هذا بسبعة كتيبات تتناول المحاور الكبرى للسياسة الخارجية الأمريكية. هنا يأتى السؤال التلقائى المبنى على السوابق، هل تستطيع إيباك تغيير جدول أعمال أوباما باتجاه التماهى مع التصور الإسرائيلى؟ فقدرة «إيباك على التأثير فى السياسة الخارجية الأمريكية مشهودة، حتى حيث لا توافق كل من إسرائيل والولاياتالمتحدة، مثلما دفعت الكونجرس فى 1995 إلى إقرار قانون يدعو واشنطن إلى نقل سفارتها إلى القدس، بينما كان كل من الرئيس الأمريكى ورئيس الوزراء الإسرائيلى فى ذلك الحين بيل كلينتون واسحاق رابين قد أبديا اعتراضهما على إقراره فى حينه، إلا أن الأهم من ذلك، أن إيباك سجلت على باراك أوباما نقطة، عندما رشح تشارلز فريمان المحلل السياسى ذائع الصيت المشهود له بنزاهة الرأى لمنصب رئيس المجلس الوطنى للمخابرات، فأرغمت إيباك المرشح على إعلان تخليه عن ذلك الترشيح، بأن شنت عليه حملة تشهير محورها أن له صلة بمركز أبحاث تسهم المملكة السعودية فى تمويله، بما ينطوى عليه ذلك من باب التشكيك فى نزاهة ما قد يصدره المجلس من تقديرات إن تولى فريمان رئاسته. إنما على وجه آخر يبدو نفوذ إيباك فى تراجع، فحسب جون نيو هاوس وهو زميل رفيع فى «معهد الأمن العالمى (فورين أفيرز مايو يونيو 2009)، ينظر عدد متزايد من الأمريكيين اليهود إلى إيباك على أنها جماعة منطوية على عرقية متطرفة. ويعترضون على ما يمارس من تكتيكات. كما يرصد أن استطلاعا أجرى بين طلاب جامعة نيويورك، أظهر أن موقف اليهود الأمريكيين من إسرائيل يتباين حسب الأجيال، فأكثر من ثلثى الطلاب لا يعتبرون أن الوضع بين إسرائيل والفلسطينيين يجب أن يكون من أولويات السياسة الأمريكية. وأن تكتيكات إيباك تجلب على الولاياتالمتحدة «عداوة يمكن تجنبها» فى الشرق الأوسط. بينما بيّن استطلاع آخر أن أغلبية اليهود الأمريكيين فوق سن الخامسة والستين يعتبرون أن إسرائيل يجب أن تكون لها الأولوية فى السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط. وأظهر الاستطلاع الأول أن حوالى أربع أخماس الأكاديميين الذين شاركوا فى الاستطلاع يعتبرون تأثير إيباك على المصالح الأمريكية ما بين السلبى والسلبى جدا. كما يرصد نيو هاوس ظهور منظمات يهودية أمريكية منافسة لإيباك تنحو وجهة مغايرة، منها «منتدى سياسة إسرائيل» الذى يقول مدير الأبحاث فيه م. ج. روزنبرج أن مهمة المنتدى هى تشجيع الولاياتالمتحدة على السعى إلى إنهاء النزاع الإسرائيلى الفلسطينى بحل الدولتين. وأن المنتدى أثبت نفسه كقوة صاعدة إذ إنه فى انتخابات الكونجرس الأخيرة دعم 41 مرشحا نجح منهم 33. كما يرصد منظمة يهودية أمريكية أخرى تدعى Street J وتصف نفسها بأنها الذراع السياسية للحركة الموالية لإسرائيل والموالية للسلام. فهل تستطيع إيباك أن تغير وجهة أوباما؟ الجواب يتوقف على مكان منع الانتشار النووى فى برنامجه السياسى ونظرته إلى الاستثناء الإسرائيلى القائم فى هذا المجال.