مليارات الجنيهات المهدرة فقدتها خزانة الدولة خلال الثلاثة عقود الماضية.. وتشتت فى إدارة أهم ما تمتلكه مصر من ثروات معدنية.. ومعادن مهدرة وضائعة فى باطن مصر تبحث عمّن يستغلها.. ومشروعات صُرف عليها مليارات الجنيهات وتوقفت دون أسباب معلنة.. هكذا يتلخص حال الثروات المعدنية فى مصر، وهو رصيد من الإهمال ترثه الآن هيئة الثروة المعدنية التى يقع عليها عبء إصلاح هذه الأوضاع فى الوقت الذى ترتفع فيه أصوات الهجوم عليها. الجيولوجى مصطفى البحر، رئيس هيئة الثروة المعدنية، تحدث ل«الشروق» عن وضع الثروات المعدنية فى مصر بعد عام من توليه منصب رئاسة الهيئة، بحثا عن إمكانية انتشال هذا المجال من الإهمال والإهدار الذى عانى منه لسنوات طويلة كادت تودى بحق المصريين فى ثرواتهم المنهوبة. حديث متعمد عن «فقر مصر» يقول البحر إن خبراء بهيئة الثروة المعدنية كانوا السبب فى الضرر الذى لحق بمجال التعدين، مؤكدا أنه لأهداف لا يعلمها تورط خبراء فى مجال التعدين فى الترويج لفكرة أن مصر فقيرة فى مجال التعدين، وهو ما يحول دون جلب المزيد من الاستثمارات فى مجال التعدين، فلا يمكن أن أسوق لنفسى كدولة لجذب المستثمر المصرى والأجنبى وفى الوقت ذاته أقول إننى افتقر الموارد التى يمكن استثمارها. لكن البحر نفى علمه بمن كان وراء الترويج لهذه الفكرة وما إذا كانت بسبب أهداف سياسية، مفضلا عدم الحديث عن المتسبب فى إهدار مستحقات الدولة من ثرواتها الطبيعية، مطالبا بالتركيز فى وضع خطط ومشروعات حقيقية يمكن تنفيذها عقب الثروة لإعادة مستحقات الدولة وحسن استغلال مواردها الطبيعية، لأن الاتهام الآن لن يفيد ولن يعيد ما فقدته مصر خلال السنوات الماضية. يذكر أن الفترة التى أعقبت ثورة 25 يناير تلقى فيها النائب العام عددا من البلاغات لاتهام قيادات بوزارة البترول ومنها هيئة الثروة المعدنية باهدار مستحقات الدولة من المعادن والسماح لشركات تتبع وزير البترول السابق، سامح فهمى، وشركاء إسرائيليين باستغلال الثروة المعدنية دون سداد مستحقات الدولة. يعلق البحر على هذه الاتهامات قائلا: «التخبيط فى الهيئة دلوقتى بقى للركب»، والمطلوب منا أن نعمل بكامل طاقتنا لإنقاذ ما يمكن انقاذه، وإذا انشغلت بالرد على الاتهامات لن انجز شيئا، ولست فى حاجة للتأكيد على أن ما كان يتم فى الماضى كان خاطئا، وسأنجز عملى ومن يرد المحاسبة يأت بعد ذلك، رافضا التعليق على الاتهامات الموجهة لسامح فهمى مؤكدا أنها مخالفات حدثت قبل توليه رئاسة الهيئة ويجب احترام تحقيقات القضاء الذى سيكون له الكلمة فى الحكم على هذه المخالفات. «نصيب الدولة من ثرواتها المعدنية لا يتجاوز ال5% وإذا تحققت هذه النسبة يكون إنجازا، ومن المفارقات أن يكون النشاط التعدينى الذى يحقق عائدا ماليا يصل إلى مليارات الجنيهات، نجد أن القانون يعطى «أى واحد ماشى فى الشارع» الحق فى الحصول على محجر مقابل طلب ترخيص بقيمة 2 جنيه و40 قرشا، وله الحق أن يأخذ منطقة بأكملها ويستغلها، وعليه أن يؤدى حق الدولة وهو 25 جنيها سنويا لكل 2 كيلومتر، وكانت الهيئة تتلقى المئات من الطلبات التى لا تكلف صاحبها شيئا ويتم على إثرها تشكيل لجان للفحص والترخيص»، حسب البحر. ويضيف: «بعد أن يحصل المستغل على المحجر لا تراه الهيئة بعد ذلك ولم تكن تعلم فيما استغل هذا المحجر، ودون أن تأخذ الدولة جنيها واحدا نظير استغلال مواردها الطبيعية، أو تحصل قيمة الدراسات التى قام بها الجيولوجيون لتحديد أماكن المحاجر، فضلا عن دخول مستغلين لا يعلمون شيئا وليس لديهم خبرة فى مجال التعدين وهو ما أهدر الثروات المعدنية». اعتداء المحليات على المحاجر سلخ المحاجر والأنشطة التعدينية من الهيئة وإسنادها للمحليات كان النقطة السوداء فى تاريخ التعدين فى مصر، وهو القرار الذى نفذ منذ الستينيات لسد الاحتياجات المالية للمحافظات، وانعدام الإشراف الفنى لهيئة الثروة المعدنية، فى الوقت الذى انصب فيه اهتمام المحليات على تحقيق الربح وهو ما فتح المجال الأكبر لإهدار الثروة المعدنية وإسناد المحاجر إلى مقاولين لا يفقهون شيئا عن التعدين وهو ما تسبب حدوث أخطاء عديدة فى حفر المحاجر مما أدى إلى إهدار أماكن كثيرة كان من الممكن الاستفادة منها والتسبب فى كوارث طبيعية وبيئية كما حدث فى الدويقة، حسب تفسير البحر. ولم تتسبب هذه القرارات فى إهدار مستحقات الدولة فقط ولكنها أهدرت الثورة المعدنية نفسها واستخدامها فى غير مجالها، فلا أحد يتخيل أن مصر الدولة الأولى التى تمتلك حجرا جيريا يتمتع بأعلى درجات النقاوة ويدخل فى صناعة الأدوية، يستغله المقاولون فى تصنيع الأسمنت والطوب، فى الوقت الذى نستورد فيه الحجر الجيرى لاستخدامه فى صناعة الدواء، فأصبح لدينا مشكلة إهدار المورد نفسها رغم وجود خبراء علميين بالهيئة قادرين على تحديد أفضل استخدام للمعدن المستخرج. استسهال التصدير وينتقد البحر ما أطلق عليه «استسهال الشركات وتصدير المعادن كمواد خاص دون تصنيعها، حتى تعود الدولة فى استيرادها فى منتجات ذات قيمة تصل إلى أربعة أضعاف قيمة المادة الخام، لافتا إلى أن التصنيع يرفع قيمة المنتج 3 أضعاف، فإذا كان سعر الخام 80 دولارا للطن، نجد أن سعر المنتج المصنع يفوق 400 دولار، مؤكدا أن الهيئة أوشكت على انهاء هذه الظاهرة. يذكر البحر شكلا آخر من الإهدار وهو قيام بعض الشركات بتصدير الجرانيت على هيئة بلوكات ثم استيراده مصقولا، فضلا عن استخراج الجرانيت بالطرق البدائية «التفجير» والذى يهدر ما يعادل 8 أطان من المادة الخام نظير استخراج طن واحد فقط، مؤكدا ضرورة اشتراط العمل بالطرق الحديثة لحفر الجبل على من يريد العمل فى أحجار الزينة. قانون جديد للثورة المعدنية فى مصر، كان الحل الوحيد أمام هيئة الثروة المعدنية لإحكام السيطرة على الأنشطة التعدينية، لكن لأسباب غير معلنة كان تأجيل إصدار القانون وتعطيل تصديق مجلسى الشعب والشورى عليه منذ التسعينيات. يقول البحر إن روح القانون المؤجل تكمن فى توحيد جهة الإشراف على النشاط التعدينى، وحفظ حق الدولة وتحصيل مستحقاتها من الثروة المعدنية، مع اشتراط وجود كفاءة مالية وفنية فى المستثمر الذى يطلب حق استغلال المحاجر، لاستبعاد من يريد أن يجنى على حق الدولة وبذلك يمكن فلترة العاملين فى مجال التعدين. رقابة صارمة يجزم البحر بأن الرقابة على النشاط التعدينى لم تتوقف بشكل خاص على مناجم الذهب، مؤكدا أن إدارة متابعة الشركات التابعة للهيئة تقوم بمتابعة أعمال شركتى الذهب ماليا وفنيا وإداريا، مؤكدا عدم وجود خلل أو قصور فى متابعة تنفيذ اتفاقيات استخراج الذهب الخاصة بشركة السكرى، مقللا من أهمية إنشاء لجنة جديدة لمراقبة أعمال الشركات. كان عدد من خبراء التعدين اقترحوا إنشاء لجنة فنية متخصصة للرقابة على أعمال شركات الذهب وتصنيعه، على اعتبار أن الإدارة المختصة بهذه الأعمال لدى هيئة الثروة المعدنية يقتصر دورها على المتابعة الفنية فقط. ودافع البحر عن مشروع مصنع السكرى لإنتاج الذهب لأنه برأيه أول مشروع لتصنيع معدن الذهب فى مصر ولا بد أن يكون هناك إصرار على إنجازه حتى يمكن الدخول فى مشروعات أخرى على غراره، وحتى لا تتحول صناعة الذهب فى مصر إلى صناعة سيئة السمعة. هيكلة فوسفات أبوطرطور وأكد البحر أن فوسفات أبوطرطور يملك كل مقومات النجاح، ومشكلته أنه بدأ كمشروع قومى حملته الدولة أعباء ولم يكن ينتج بعد، مستنكرا الانتقادات التى وجهها البعض للهيئة بعد إعطائها تسهيلات وحوافز لشركة فوسفات مصر التى آلت إليها ممتلكات فوسفات أبوطرطور وأصولها وديونها التى وصلت إلى 8 مليارات جنيه. وأكد البحر أن من وراء اتهام الهيئة بإعطاء التراخيص لشركة فوسفات مصر هم عدد من رجال الأعمال رفضت الهيئة دخولهم فى منطقة أبوطرطور وإسناد المشروع إلى شركة فوسفات مصر وهى شركة قطاع عام، قائلا: «لو لم أدعم القطاع العام فمن الذى أدعمه إذن.. والقطاع الخاص لا يعطينى مستحقاتى». «الدولة كانت تحارب نفسها»، هكذا لخص البحر مشكلة تعطيل إنتاج الفحم فى سيناء مستبعدا وجود أياد إسرائيلية وراء تعطيل منجم المغارة الذى كان من المفترض أن يجعل من مصر بورصة الفحم فى المنطقة. لكن فشل مشروع منجم المغارة لن يكون عقبة أمام استغلال الفحم فى سيناء الغنية بالفحم والتى تجعلنا بورصة الفحم فى المنطقة، فالهيئة بدأت الإعداد إلى مشروع كبير للتنمية على أساس التعدين، وقد نكون تأخرنا عن تنمية سيناء ولكنها لم تعد سيناء بعيدة عن الاستثمار، حسب ما استبشر به رئيس الهيئة.