خلال الأسابيع القليلة الماضية، كان التوجه الاقتصادى للحكومة المؤقتة المصرية مصدر جدل مكثف داخل صندوق النقد والبنك الدوليين والبنك الأوروبى للإعمار والتنمية. ذلك أنه فى الوقت الذى تعلن فيه هذه المنظمات عزمها منح مصر مساعدات مالية قدرها مليارات الدولارات، تتحدث فيه عن أهمية «التحول نحو الديمقراطية والحرية»، متجاهلة تأييدها لنظام مبارك فى الماضى. لكن الانتقادات الموجهة إلى هذه المنظمات يجب أن تتجاوز الحديث عن النفاق الغربى، لأن هذه المساعدات المزمع تقديمها إلى مصر تهدف إلى الإسراع من برنامج الليبرالية الجديدة الذى كان يتبعه مبارك. وظاهريا، تؤكد حزمة المساعدات التى تنوى مؤسسات التمويل الدولية منحها لمصر على إجراءات مثل «خلق الوظائف» و«التوسع فى البنية الأساسية» وغيرهما من الأهداف البناءة. لكنه فى حقيقة الأمر، ترتكز هذه المساعدات على السياسات الليبرالية الجديدة الكلاسيكية، المتمثلة فى الخصخصة، وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، ومنع الحكومة من التدخل فى حركة السوق. ويقوم المنطق وراء التوجه الليبرالى الجديد على ما يلى: تنبع مشاكل مصر من ضعف القطاع الخاص، وسعى المسئولين فى الدولة وراء الريع. ويتمثل الحل فى فتح السوق المصرية أمام العالم الخارجى، ورفع القيود عن الاستثمار فى القطاعات الحيوية للاقتصاد، وتحرير قوانين الملكية، ووقف دعم الغذاء والسلع الأساسية المقدم للفقراء، وزيادة تنافسية السوق. وعند ترك الأسواق تعمل بحرية، سوف يكون القطاع الخاص قاطرة النمو، وتزيد المبادرات من جانب رواد الأعمال، مما يؤدى إلى خلق الوظائف وتحقيق الرخاء. ولا يوجد شىء جديد فى هذه الأفكار. وقد عرضت النتائج الملموسة لهذه السياسة فى تقرير مهم أصدره البنك الدولى عام 2009، حول النمو المرتكز إلى القطاع الخاص فى أفريقيا والشرق الأوسط: «1 فتح القطاعات المحمية من الدولة أمام القطاع الخاص. 2 الحد من التعريفات الجمركية وغيرها من القيود على الاستيراد. 3 وقف الحماية المقدمة للشركات المملوكة للدولة، وفتح هذه الشركات أمام المنافسة. 4 إزالة التحيزات المضادة للصادرات». ويجب على هذه الحكومات تشجيع الاستثمار الأجنبى عبر رفع القيود على الملكية الأجنبية، والتوقف عن اشتراط حد أدنى مرتفع للاستثمار الأجنبى، وخصخصة البنوك المملوكة للدولة، خلال عملية تتسم بالشفافية والانفتاح. كانت هذه نوعية السياسات التى من المتوقع أن نراها فى مصر مع بدء تدفق المساعدات الخارجية. وفى واقع الأمر، تمثل هذه السياسات الشروط المسبقة لتلقى تلك المساعدات. الدين الخارجى يوجد عنصران مشتركان فى جميع عروض المساعدات المزمع تقديمها إلى مصر فى الوقت الراهن، هما زيادة القروض (أى زيادة الدين الخارجى على مصر) والوعد باستثمارات عن طريق ما يسمى بالشراكة بين القطاعين العام والخاص. ويبلغ إجمالى الدين الخارجى على مصر حاليا 35 مليار دولار. وفى غضون العقد الماضى، كانت مصر تدفع 3 مليارات دولار سنويا فى شكل خدمة الدين. وخلال الفترة بين 2000 إلى 2009، تزايد مستوى الدين المصرى بمعدل 15%، بالرغم من أن هذا البلد دفع 24.6 مليار دولار كمدفوعات للديون فى الفترة نفسها. وبلغ صافى التحويلات فيما يخص الدين طويل الأجل بين 2000 و2009 (أى الفرق بين القروض التى تلقتها مصر وبين مدفوعات الدين) 3.4 مليار دولار. وبمعنى آخر، فإنه على عكس الاعتقاد الشائع، زادت الأموال التى تدفقت من مصر إلى الدائنين الغربيين عن الأموال التى وردت إليها. ولاشك أن قرار اقتراض هذه الأموال والوقوع مجددا فى «مصيدة الدين» لم يتخذ بواسطة فقراء المصريين. ويعد ذلك من نوع الديون التى يسميها الاقتصاديون المتخصصون فى التنمية «الديون البغيضة» أى الديون التى تأخذها النظم الديكتاتورية من دون النظر إلى احتياجات السكان. ولا يتحمل مبارك وحده المسئولية عن هذه العملية. فقد ظل صندوق النقد والبنك الدوليان وغيرهما من الدائنين يشجعون على هذا الاقتراض، ويمتدحون أداء الاقتصاد المصرى فى عهد مبارك، بسبب الأرباح التى تنجم عن هذه العملية. وسوف تزيد القروض التى وعدت بها مصر من عبء الدين الملقى على كاهلها. وإذا لم يتم رفض هذه القروض والتخلص من الدين الحالى، فسوف تجد مصر نفسها فى طريق مسدود، يصعب الخروج منه. الاستثمار الخارجى والشراكة بين القطاعين العام والخاص تعهد أوباما فى الخطاب الذى ألقاه فى 19 مايو بتقديم مليار دولار فى صورة استثمارات خلال مؤسسة أمريكية تسمى هيئة الاستثمارات الخاصة الخارجية. وتتولى الهيئة دعم استثمار الشركات الأمريكية فى الأسواق الناشئة، حيث تقدم ضمانات للديون خاصة فى حالة المشروعات الكبيرة أو قروضا مباشرة للمشروعات التى تعتبرها الشركات الأمريكية شديدة الأهمية، لكنها قد تواجه أخطارا سياسية. ووعد البنك الأوروبى للإعمار والتنمية بتقديم 3.5 مليار دولار فى صورة استثمارات. وكانت هذه المؤسسة قد أنشئت فى أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتى، بهدف تحويل اقتصاديات دول شرق أوروبا إلى الرأسمالية. ولعل الأمر الأساسى الذى يمكن ملاحظته هو أن الاستثمار الخارجى يأتى مرتبطا بشروط. ففى حالة هيئة الاستثمارات الخاصة الخارجية والبنك الأوروبى للإعمار، تم التأكيد بوضوح أن هذه الاستثمارات مشروطة بتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أى تحقيق نوع من الخصخصة عبر الاستعانة بشركات القطاع الخاص من أجل مد الشركات المملوكة للدولة بالخدمات والوسائل اللازمة لتطويرها. وتتعرض مشروعات الشراكة هذه لانتقادات حادة فى الغرب، لأنها قد ترتب عليها فى كثير من الأحيان زيادة الأسعار وانخفاض مستوى الخدمات المقدمة. ليس الاستثمار الخارجى محايدا، ولا يمثل شكلا من أشكال «مساعدة» مصر. بل إنه وسيلة لإلزام الحكومات المصرية المقبلة بالمزيد من الخصخصة، باعتبارها أساس السياسة الاقتصادية. حان وقت الجدل أظهرت السنوات التى اتبعت فيها مصر سياسة الليبرالية الجديدة أن الإجراءات التى تصاحب هذه الديون والاستثمارات سوف تؤدى إلى تعميق الفقر وتراجع مستويات المعيشة بالنسبة لغالبية السكان. وفى الوقت نفسه، سوف تساعد التدفقات المالية فى تعزيز مكانة النخبة الضيقة من رجال الأعمال والعسكريين، حيث إن هؤلاء وحدهم من المتوقع أن يستفيدوا من إضفاء المزيد من الليبرالية على الاقتصاد. لقد عوقب الشعب المصرى بتحمل دين لم يتسبب فيه. وتعد المساعدات الجديدة بمثابة تدخل واع من جانب الحكومات الغربية فى العملية الثورية المصرية. وإذا لم تتم مقاومة هذا التوجه، فسوف تنتهى الإنجازات التى حققتها الانتفاضة المصرية. ومن ثم، هناك حاجة ملحة حاليا إلى إجراء جدل فى المجتمع المصرى حول هذه القضية. ذلك أن الوقت ضيق والصمت سوف يؤدى إلى الهزيمة.