أسطح البيوت والأطباق الفضائية وبنايات الأحياء القديمة فى القاهرة تجدها كلها مجسدة فى لوحة جرافيك تحت عنوان «نوبار»، مكونة من ثلاثة أجزاء متكاملة، يلفها الأبيض والأسود بسحر خاص. تتعرف فيها على روح العمارة فى حى المنيرة العريق بخطوطها الأوروبية وارتفاعاتها المتوسطة. وتختلف هذه الخطوط فى لوحة أخرى تصور منطقة «الدرب الأحمر» حيث البنايات المتلاصقة بعشوائية والمتفاوتة الارتفاع. فينتابك الشعور فى تأملك لأعمال الفنان الأسترالى دامون كوارسكى انه مهندس معمارى شديد الحنكة ينقل لك روح العمارة والمدينة، لكنه فى الوقت ذاته يضفى عليها شيئا طفوليا، ملامح من كائنات وقصص الخيال العلمى. «يحكى» الفنان الشاب عن المدن وعن القاهرة من خلال الرسم والجرافيك فى معرض بعنوان «فى المدن المرئية» بقاعة مشربية، يعيد رسم المدن التى زارها فى علاقتها بساكنيها. ولذا اختارته جمعية بعد البحر الثقافية ليمثل الجانب الفنى التشكيلى بالدورة الثانية ل«مهرجان القاهرة الأدبى للبحر الأبيض المتوسط»، الذى اتخذ موضوعا له هذا العام «الأدب والمدينة». وهى التيمة التى استقر عليها المهرجان منذ شهور، وبدت مستشرفة للتغيرات التى تشهدها مدن مصر المختلفة بعد الخامس والعشرين من يناير. اليوم بعد أن استعادت مصر إيمانها فى إمكانية إيجاد مستقبل مختلف، كما تقول ستيفانيا أنجرانو، مديرة جمعية بعد البحر ومنظمة المهرجان، حيث كانت القاهرة، المدينة«القاهرة» كانت البطل الحقيقى للأحداث. تقرأ فى مقدمة مطوية المهرجان: «مشهد ميدان التحرير الضخم نتذكره جميعا. هذا الميدان الذى أعيد تصميمه ليكون ميدان للمرور السريع وظل على مدى ثلاثين عاما تحت وطأة قانون الطوارئ، التى تمنع التجمعات الجماهيرية، وقد احتله ملايين المتظاهرين وتحول إلى أجور أو ساحة للقاء والتجمع وتبادل الأفكار». يحتفى المهرجان بالمدينة متمثلة هنا فى القاهرة التى يفتخر سكانها بأنهم كانوا هنا فى القاهرة يصنعون الحدث «لأن أينما يوجد التغيير التغيير إلى الأفضل يكون هو مركز العالم». يسعى المهرجان إذن إلى عرض التفاعل الفنى والثقافى مع الواقع اليوم ومع التغيير الذى بدل وجه المدينة، فى مجالات الموسيقى والنص الأدبى والتعبير السينمائى والتشكيل. ليس فقط لأن الثقافة ينبغى أن تستمر مثلما تستمر الثورة، لأنها ليست لحظة تالية للثورة بل مكملة لها. أيضا لأن هذه التفاعلات بين كتاب وفنانين من مدن البحر المتوسط تطرح دائما تساؤلات حول الاختلاف والتشابه، التى تسعى من خلال هذه التظاهرة إلى جمع فنانين وكتاب من المتوسط وفتح النقاش حول رؤى ثقافية مختلفة، عبر وسائط عدة الأدب والتشكيل والموسيقى والسينما. كما لو كانت اللغة المشتركة، التى يتحاور بها المشاركون لغة خاصة، هى لغة المدينة. مثل الفريق الموسيقى «راديو درويش»، الذى يفتتح المهرجان بحفل بالأوبرا، والذى يجمع بين إيطاليين وفلسطينيين استطاعوا أن يندمجوا عبر ثقافتهم المختلفة، ويقدموا إيقاع المدينة اليوم، بروح معاصرة يتفاهم خلالها الفنانين لأنها تنتمى للمدينة الأشمل، التى قد تكون مدن البحر المتوسط وفى معناها الأشمل اللغة الإنسانية الفنية. كما قد يجد المشاهد والمتابع للمهرجان ملامح مشتركة «أعراض» ثقافية تصيب أبناء المدينة، مثل هذه الكتابات التى طبعتها السياسة بروح الرفض والاحتجاج، مثل المدون الإسبانى، الذى يعيش فى فرنسا بول جيداى. والتى لا تختلف فى روحها النقدية عن العديد من الكتابات الأدبية، التى تعيد تفكيك المدينة وتسجل اختلافها اليوم عن ذى قبل، وتتناول فضاءات جديدة لم تكن مطروحة على الأدب مثل العشوائيات والمدن الجديدة والمقاهى الجديدة والتجمعات التجارية. وهذا من خلال قراءات وموائد مستديرة ينظمها المهرجان (انظر البرواز). أما فى معرض «فى المدن المرئية» الذى عمل ودرس صاحبه الأسترالى دامون كوارسكى فى الهند وإسبانيا ومصر والمكسيك، فقد سجل المدن ورسمها فى لوحات تحمل كل منها روح المدينة، فضلا عن رسوماته للقاهرة، يرسم هنا دمشق، وهنا اسطنبول، وهناك شيكاغو، أو بيماستر الإيرانية أو ميلبورن مسقط رأسه. يعطى لمعرضه عنوان فى المدن المرئية كما لوكان يدعونا لنتعرف على الوجه الآخر للمدينة لما لا نراه، روح المدينة التى يرسم معمارها لكنه يضفى من جوهرها على كل منها. ويضيف على هذه البيوت المتكدسة فى الدرب الأحمر التى يصورها من عل حس إنسانى وخطوط مائلة ليست حادة وشديدة الهندسية كما لو كانت قد تمثلت ساكنيها. يسلط الأنظار فى المساحات التى تحتلها البنايات على الفراغ الذى تتركه، على الوحدة التى تطرحها المدينة دائما، غير أن ما يهمه فى المقام الأول فى تجواله الفنى بين المدن هو «خصوصية المكان وما يعكسه فى نفس الوقت من خصوصية محلية ومن شعور كونى يتوقف فيه الزمن»، كما يقول لأحد القوميسير الفنيين، ما يقدمه هو هذا الحنين للإنسانى والمشترك وراء الكيانات الضخمة أو الأبنية الطينية. حيث يفسر رؤيته للمدينة قائلا: «تغير اهتمامى بالمدينة عبر الزمن. ما بدأ بالصور التقليدية لبيوت من الطين أو الطوب مستوحاة من زياراتى لمصر والمغرب وتونس، تحول تماما إلى المدن الحديثة ذات الوجهة المستقبلية واللغة التكنولوجية». تأثر كوارسكى بأفلام الخيال العلمى، وأصبح يرى الجمال ليس فقط فى الأبنية القديمة ولكن فيما يبنى اليوم «إذا فقط توقف المرء وتأمل ما حوله». بعد إلغاء مهرجان القاهرة السينمائى الدولى ومهرجان المسرح التجريبى، سيفتتح غدا المهرجان الأدبى «الصغير» الذى سعت إليه مؤسسة خاصة «جمعية بعد البحر» إيمانا منها بأن الثقافة فعل مقاومة مثل الثورة تماما، وأن المهرجان الذى بدأ العام الماضى متخذا من تيمة «السخرية» عنوانا له، لابد أن يستمر متجاوزا العبارة الشهيرة «هذا ليس وقته».