هل عرفتم بظاهرة نمو الأشجار الباسقة فى ساعة؟! إليكم قصة: منذ أيام قام السفير البريطانى فى القاهرة بزيارة إلى إحدى المحافظات لمتابعة مشروع من مشروعات التنمية، وتضمن برنامجه زيارة مدرسة.. فكان من الطبيعى أن يهتم الحى الذى تقع فيه المدرسة بنظافة الشوارع المحيطة، وزراعة الأشجار الباسقة، التى يختبئ نصفها فى إناء من الفخار، لأن تلك الأشجار عبارة عن «سلفة» من مشتل قطاع خاص وسوف ترد إليه عقب رحيل السفير. وبهمة ونشاط دارت سيارات النقل التى تحمل الأسفلت الأسود، المعروف بالزفت، وطلاء الشارع بطبقة رقيقة منه، تكفى لخداع بصر السيد السفير، كما طليت الأرصفة بالزفت نفسه، ولا أعرف ما سر هذا الزفت الذى نستخدمه بمناسبة وبلا مناسبة؟ ماعلينا.. رفعت تلال القمامة التى كانت تحيط بمقر المدرسة، ودهنت حدود الأرصفة باللونين الأبيض والأسود.. وإمعانا فى التجميل قرر القائمون على ترتيب استقبال السفير دهان غطاء بالوعة مجارى فى شارع خلف المدرسة، ثم كتبوا على الغطاء بألوان زاهية كلمة: «مصر» بالإنجليزية لخطف بصر السفير إلى جمال الغطاء! لولا ستر ربنا، شاهدت الغطاء سيدة مصرية وسارعت بلفت نظر رئيس الحى الذى تقع فيه المدرسة لإزالة اسم مصر من غطاء المجارى، فهو ليس لوحة سيريالية أو ميدالية ستمنح لسيادة السفير. زفت الزيارات ظاهرة فى بلادنا. ويعرفه كثير من المسئولين، حيث تروى الشوارع والأرصفة بهذا الزفت أثناء زيارات الرؤساء وكبار رجال الدولة.. وموضوع الأشجار الكبيرة التى تخترق فروعها عنان السماء فى صحراء جرداء لا يصلها ماء من معجزات النفاق والكذب على المسئولين.. وأتمنى يوما أن يقوم مسئول كبير بزيارة موقع، ويغادره، أو يوحى بأنه غادر، ثم يعود فجأة بعد نصف ساعة من الزيارة.. فلن يجد الأشجار والأزهار والأفكار التى كانت موجودة. وقد حدث أن شاهدت بنفسى كل شىء يعود كما كان فور أن يعطى الضيف ظهره للموقع متأهبا للمغادرة، وأذكر أن الرئيس السادات كان فى زيارة من تلك الزيارات ذات يوم، ولأنه يعشق الريف والزراعة واللون الأخضر، جذبته الأشجار المزروعة فى الموقع، فداعب شجرة وسحبها بيده، ليجد أنها شجرة جاهزة فى إناء من الفخار مدفون بالأرض..فغضب غضبا شديدا لأن المعنى أعمق من مجرد تجميل مكان من أجل زيارة الرئيس؟! ومنذ أعلنت مصر أن الرئيس الأمريكى باراك أوباما «من الأرجح» أنه سيلقى بخطابه إلى العالم الإسلامى من جامعة القاهرة. بدأت الجامعة عملية تلميع وغسيل للحوائط، وإزالة كلمات ورسائل الغزل والغرام المكتوبة على الجدران، وتمزيق خيوط العنكبوت التى كانت تعشش على أركان الأبواب والنوافذ. وكما جرت العادة فى استقبال الرؤساء، تمت زراعة الحدائق بالأزهار والأشجار، وتنسيقها. وزاد الأمر بترميم أجزاء من القاعة الرئيسية أو إصلاحها. ولا أدرى هل تمت تلك العملية منذ أسس الملك فؤاد الأول جامعة القاهرة أم أنها المرة الأولى فى مائة عام أو بمناسبة مرور قرن على إنشاء الجامعة. إنها ظاهرة اجتماعية وسياسية.. والمسألة نسبية، فتلك زيارة لرئيس أكبر دولة فى العالم وسيكون محاطا بمئات الصحفيين والكاميرات، ولكن مشاهد التنظيف والتجديد تتكرر فى مواقع مختلفة، فى مدرسة يزورها سفير أو مفتش أول أو مصنع يزوره وزير أو الوزير الأول. ولست ضد الاستعداد للضيوف وللزيارات والترحيب بهم بما يليق بمكانتهم، فنحن فى منازلنا أيضا نجرى ترتيبات مماثلة، وفى يوم الزيارة يتحول البيت وصالونه إلى ما يسمى بمعركة الزيارة، بكل ما فيها من صخب تنظيف وضرب مقشات، لكن ألا نستحق نحن هذه النظافة وهذا التلميع وهذا الغسيل للشوارع والأرصفة والجدران، فى كل موقع، دون انتظار لزيارة رئيس أو وزير؟ ألايستحق طلبة جامعة القاهرة العريقة هذا الاهتمام وهى محراب العلم الأول فى مصر ومنبره؟ ألا نستحق أن تكون شوارعنا لامعة ونظيفة وجميلة دائما خالية من تلال القمامة؟! بعض الناس الذين يسكنون أحياء معينة فى مصر يتمنون زيارة الرئيس أو السيدة قرينته أو الوزير أوالمحافظ كى يصبح حيهم مكانا صالحا للحياة. فقط صالحا للحياة الآدمية.. خاليا من القمامة ومياه المجارى ومزروعا بالأشجار والأزهار ولو لمدة ساعة هى عمر الزيارة؟! إن المعنى فى تزيين موقع، يقول بأن كثيرا من المواقع والأحياء لايعرف الصيانة ولايهتم بها، ونتذكر الإصلاح فى الأزمات، باعتبار أن الزيارات الرسمية أزمة. ولا نهتم بالنظافة لأنها غير مهمة، كما يظن البعض، أو لأنها فوق طاقتنا كما نبرر.. والأخطر المدلول الاجتماعى الذى يجعلنى أرى التزيين زيفا وتزييفا، وكذبا ونفاقا وخداعا، وأن كل شىء جميل ليس من حقنا.. ومن أسف أن الذى ينكر الجمال علينا هو نحن أنفسنا وبإرادتنا؟! أهلا ومرحبا بفخامة الرئيس باراك أوباما.. وبسعادة سفير بريطانيا فى القاهرة والبدرشين.. فهما نموذج لمعجزة الأشجارالباسقة التى تنمو فى ساعة؟!