بعد محاولات عدة وتفكير عميق، ساقنى القدر إلى الاقتناع بمن يرون أن فى السفر سبع فوائد،وأن الإنسان لابد أن يسلك كل السبل من أجل الرزق،وأن السعى مطلوب وأن...وأن......فمضيت فى طريقى وتشجعت لأول مرة-ولا أدرى لماذا -لقبول أحد العروض الكثيرة المقدمة من إحدى الجامعات العربية التى تتطلع دائما الى الأساتذة المصريين لا سيما الإناث لوجود عجز لديهن فى هذا المجال.. ذهبت وفى اثناء رحلة السفر-من أسيوط الى القاهرة-لم ينقطع تفكيرى فى اشياء واشياء...وصلت الى المكان وطلب منى ومن غيرى الانتظار فى احدى القاعات ولأننا فى مصر قد تعودنا بل نشأنا على ثقافة الانتظار والطوابيروالزحمة فلبينا النداء بكل أريحية. قاعة واسعة تمتلئ بأعداد من الحاصلين على الدكتوراة بأقسام مختلفة ودرجات علمية عدة ،ابتداء من المعيد حتى العميد.كل التخصصات والأقسام والفئات والأعمار المختلفة،نعم فرقت بيننا الأسماء والملامح والميول والاتجاهات العلمية ولكن جمعنا هذا المكان ،ربما عن اقتناع او عدم اقتناع،ربما عن قبول وارتياح،ربما عن اضطرار وعدم رضا،ربما عن دهشة واستغراب،ربما عن سخط وندم،ربما عن اقتناع بمبدأ السعى للرزق. المهم أننا جميعا "التقينا"هنا،جلسنا معا،تكلمنا-بلاصوت- ننتظر معا، نتذكر سنوات الكفاح والشقاء والألم نستحضر نفوسنا المرهقة ،المتعبة من عناء البحث العلمى، نستحضر نفوسنا وهى تلهث هنا وهناك بين المحافظات والمكتبات والجامعات والإدارات لإنجاز مهمة علمية،او للحصول على مرجع ما أو مصدر،أو معلومة أو لمقابلة أستاذ أو مشرف أولحضور مناقشة أوندوة أو مؤتمر أو تدريب أو ملتقى...... ننفض غبار الذاكرة المتعبة التى أوهنها البحث عن العلم وعن الرزق وعن الدرجة العلمية وعن موضوع البحث،وعن الوظيفة وعن المشرف والأستاذ والمناقش والعميد والموظف المختص......وعن الحياة اكتشفنا اننا نبحث عن كل شئ وأى شئ ولا شئ يبحث عنا!.. ننفض غبار الذاكرة ،ونزيح سحابة الهم الجاثمة على الأفئدة وعلى العقول من عناء التفكير فى الماضى والحاضر والمستقبل.. نتذكر تلك الأيام الشاقة التى بكت فيها العيون ألما وجهدا وترحالا وبحثا،نلتقط بعيوننا السفر الدائم وراء الأشياء،نتأمل وجه ذلك المشرف الذى يحمل بين جنباته قلبا حانيا،يدفعنا للصبر والمثابرة والإخلاص،ويرسم أمامنا خيوط الأمل المشرق،ويقص علينا حكاية الكفاح المثمر.. ونتذكر ايضا-فيما نتذكر-ذاك المشرف الذى يحمل بين جنباته حجرا صلدا قويا لايلين يسمى مجازا القلب،يلقى هذا الأستاذ أمامنا بكل العثرات والصعاب بلا شفقة او رحمة ،يضع أمام الطالب أو الباحث خيوطا متشابكة معقدة مختلطة،لا تدع له نافذة للهواء أو التقاط الأنفاس ليطل منها الى الحياة،لم يترفق يوما ،ولم يعطف لحظة ولم ير بقلبه ذاك الجسد الواهن الذى تحاصره معاناة البحث العلمى تارة، ومعاناة الحياة اليومية تارة أخرى.. كل هذا وأكثر بلا صوت مسموع أو حوارصاخب أو مناقشة مصطنعة،لكن إذا نظرت بقلبك الرقيق إلى الوجوه ستسمع ما لم يقله اللسان ،وسترى ما لم يبح به الفؤاد ،وستلمس ما لم يكشف عنه العقل المرئى، وستجد ما لم تشعر به أنت من قبل هذه اللحظات وذاك المشهد الدرامى الصامت.. كما قلت لك -عزيزى القارئ-اختلفنا فى أشياء واتفقنا على صوت واحد لم يسمعه احد سوانا،ولم يره أحد سوانا،ورددنا معا من الفؤاد الجريح:رفقا بأبنائك يا وطنى.. هناك من تلمح فى عيونهم نظرات من الألم الدفين لأنه كان يتمنى ألا يدفع "للجرى" وراء الإعلانات المختلفة من أجل توفير لقمة عيش كريمة له ولعائلته ،وهناك من تلمح فى عيونه نظرة إشفاق على أهله وأسرته التى يحلم أن تكون فى أرقى مكانة بعد أن ضحت من أجله بالكثير بما تملك وبما لاتملك من أجل لقب "دكتور"ومن ثم فها هو ذا يقول لهم بقلبه الرقيق وفؤاده الجريح -ايضا-شكرا لكم من الأعماق ،وها أنا ذا جئت اليوم هنا -طوعا أو كرها-لعلى أبلغ الأسباب،أسباب الرزق لأرد شيئا مما منحتمونى إياه.. وهناك من تلمح فى عيونه كلمة عتاب دامعة يوجهها إلى بلده التى طالما ظن أنها ستسعد به كما يسعد ويفخر هو بها،أنها ستحضن أحلامه وآماله ومستقبله،وستربت على كتفه عندما تحاصره الهموم والأوجاع،ستزيح دمعاته الدافئة وتغسل أوجاعه الدفينة،ولكنه أبدا لم يتوقع أن تتركه أمه الحانية وحيدا بلا مأوى،مرتجفا فى العراء،جائعا بلا لقمة كريمة يسد بها رمقه،تتركه بلا حضن دافئ يأوى إليه كلما اجتمعت عليه الخطوب والمحن لم يعرف أبدا أن الوطن أحيانا يفرط فينا ونحن الذين كنا وما زلنا نمد إليه يدا........................... مازالت عيناى تدمع حتى كتابة هذه السطور كلما تذكرت صورة الأستاذ الجامعى الذى يتجاوز الخمسين بكثير-فى رأيى ولعل الهموم هى التى رسمت ملامحه-وهو يتكلم بأنفاس واهنة،ويتحرك بخطى واهنة،وبرغم هذا فهو يروح ويغدو فى المكان فى قلق وترقب ربما أكثر من الشباب من أجل اتمام مشروع السفر ليكفل لأسرته حياة كريمة. وما زلت أذكر ايضا ،ذلك الأستاذ الذى قادته خطواته رغما عنه للمكان من أجل البحث عن ورقة مهمة فقدت من الموظف المختص،فتراه يتنقل بين الأدوارالمختلفة بكل عناء من أجل مشروع السفر،أو تلك الأستاذة التى اصطحبت معهاابنها وجلست ترقب الأجواء فى اهتمام وتتطلع الى المقابلة وتتأمل الوجوه من حولها بعد أن انضمت إلى ساحة الانتظارللمجهول،وستجد أمامك فى الذاكرة أيضا تلك الشابة التى حصلت على الدكتوراة حديثا وأصابها ما أصابها من الضيق لأنهالم تلق معاملة كريمة من هذا الموظف المصرى أو العربى أو ذاك الأستاذ العربى الذى سألها فيما تعرف وفيما لا تعرف.. مازلت أتذكر وأتذكر وأستحضر وأستعيد ذاك المشهد الذى ساده الصمت والسكون،ولكن أبت العيون أن تخفى ما فيها،وأبى الفؤاد أن يخفى أو يتستر على ما يحمله من شجن وألم ومعاناة،وأبت النظرات أن تكتم أنفاس الوجدان الجريح الذى أضناه البحث عن الحياة-أرجو أن تتأمل الجملة السابقة مليا- وأبى الجميع إلا أن يردد بصوت واحد غير مسموع نطقت به العيون بنبرات صارخة مستغيثة وأعين دامعة معاتبة بعد ساعات من الانتظار فى القاعة الواسعة،وساعات من الترقب والتطلع والحيرة والملل والسأم والتساؤلات والاستفسارات ،بعد سنوات من الكفاح والسهر والمشقة والترحال ،أبت القلوب إلا أن تكتب بأنفاسها عبارة واحدة:"رفقا بأبنائك يا وطنى" خرجت من المقابلة وأنا أتساءل وأناجى نفسى الحيرى: إلى متى ستفارق الأم أبناءها؟هل سيطول غيابها؟ هل من عودة وإلى رجوع؟