«سرقات صغيرة» مجموعة قصصية جديدة، صدرت عن دار الشروق تنضم لأعمال الروائى والقاص الكويتى طالب الرفاعى، اختلسها على مداى تسع سنوات كاملة من الانشغال بالرواية. الرفاعى واحد من أبرز كتاب الخليج اشتهر بكونه مولعا بالكتابة عن تفاصيل المجتمع الخليجى، عرف فى القاهرة مع طبع عدد من أعماله فى دور نشر مصرية خاصة وحكومية أبرزها «ظل الشمس» عام 1998، ولاقى ترحيبًا من القراء والنقاد، غير أن هذا الترحاب تحول هجوما ضاريا مع قبوله رئاسة لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية فى دورتها الثالثة العام الماضى، الجدل الذى لا نود هنا اشعاله مرة أخرى بل سألنا بطله الأساسى عما كشفه له هذا الجدل من آفات الوسط الثقافى العربى من وجهة نظره، فأكد: «تجربة وجودى على رأس لجنة تحكيم جائرة الرواية العربية فى دورتها الثالثة، كانت تجربة مثمرة وجيدة، فلقد عملت فى لجنة التحكيم مع زملاء أكن لهم كل الاحترام، وكانت علاقتنا رائعة بمنظمى الجائزة، سواء أصحاب جائزة البوكر العالمية، أو مؤسسة الإمارات للنفع الاجتماعى. كما أن التجربة قدمت لى فرصة ثمينة لقراءة المشهد الروائى العربى، من خلال الاطلاع على (115) رواية عربية، تنتمى لمختلف البلدان والأعمار والصيغ الروائية». هذه الحصيلة «الجيدة» بتعبير الرفاعى لم تمنع بعض المرارة من التسرب إلى حديثه قائلا: «فيما يخص عدم احترام البعض للجنة التحكيم والتشهير بأعضائها وقراراتها فهذا شأن ذلك البعض، وربما كان ذلك كفيلا بكشف بعض أمراض وعلل وشللية الوسط الثقافى العربى، وعدم قدرته على الموضوعية بسماع رأى مختلف. وأخيرا إذا كان بين الروائيين العرب قلة تلهث وراء الجوائز، فإن روائيين عربا كثر، ومن مختلف أقطار الوطن العربى، قدموا وما زالوا يقدمون أعمالا روائية عربية طليعية فى بنيتها ورؤاها وفى صياغتها وتناولها للهم الاجتماعى والسياسى، مع توافرها على رؤية إنسانية نبيلة». مع اجابته المتحفظة سألته: «لكنى أود أن أذكرك هنا أن الغالبية العظمى من الأدباء العرب لم يستطيعوا التأثير فى الشارع العربى المقموع منذ سنوات طويلة، نظرا لحالة الانعزال الطويلة التى عاشوها، وبدلا من ذلك كان ما سميته «اللهاث خلف الجوائز»، فما تعقيبك على ذلك؟ هل تتفق معى أم أنك ترى أسبابا أخرى لذلك؟ بداية لابدَّ لى من التعبير عن غامر فرحى بعهد عربى جديد، وأمل عربى يطلّ إلى أقطار الوطن العربى من المحيط إلى الخليج. ولقد كتبتُ مقالا فى جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 16 فبراير 2011، وصفت فيه نجاح الثورات العربية الشبابية بأنه بمنزلة (عودة الصوت إلى الحنجرة العربية). وانطلاقا من ذلك، فأنا لست مع مقولة «الأدباء لم يستطيعوا التأثير فى الشارع العربى»، بل إننى أرى أن ثورة الشارع العربى كانت فى جزء منها ثمرة لكتابات إبداعية وفنية كثيرة محرّضة، اختزنها الوعى واللاوعى العربى، وعبّر عنها فى ثوراته السلمية التى لفتت نظر العالم إليه. أعتقد أنه من التجنى التنكر للمبدع والمثقف العربى، ودورهما المؤثر فى الحياة الاجتماعية العربية. الحياة تكون صعبة وقاسية بدون الفن. فالفن هو العارضة التى نتمسك بها لنحيا متوازنين على قنظرة اللحظة الشاهقة والمتأرجحة، وربما وحده الفن، يقدم العزاء لأرواحنا المعذبة كى تحتمل مرارة الحياة اليومية الصعبة التى تحيط بنا. ●لكن اتهامات كثيرة وجهت للابداع العربى قبل اندلاع الثورات بأنها باتت مبنية على سرد التفاصيل التى تنتمى إليها الكثير من كتاباتك بما فيها «سرقات صغيرة»، هربا من مرارة الواقع السياسى، وتغريب القراء عن أزمات مجتمعاتهم، فما تعليقك على ذلك؟ من البديهى القول بأن أى واقع، اجتماعى أو اقتصادى أو فكرى أو سياسى أو فنى إنما يتشكل من التفاصيل، وبالتالى فأنا لست مع وجهة النظرة القائلة بأن المجاميع القصصية التى اشتغلت بالتفاصيل إنما أرادت الهروب من الواقع السياسى، وأرادت من جهة أخرى تغريب القارئ عن أزمات مجتمعه. بل قد يكون العكس هو الصحيح. فتفتيح عين ووعى القارئ على التفاصيل الصغيرة البائسة والمؤلمة المطمورة فى طين الواقع اليومى، ربما يشكل المحرك الخفى لتراكم نقمة المواطن العربى حيال الواقع السياسى. لذا فإن كتابة التفاصيل كانت ولم تزل، هى كتابة حياة الإنسان، وهل من شىء ألزم على الإنسان من النظر إلى تفاصيل حياته منعكسة فى مرآة الفن الفاضحة والصريحة. ●أما آن للأدب والفن أن يمارسا دورا فى الثورات العربية؟ أم أنك تميل إلى الفصل بين الإبداع والسياسة؟ السياسة بالنسبة للإنسان العربى، فى العموم، كالهواء والماء والخبز، كلنا يتنفس ويأكل سياسة ما دام يحيا يومه. لذا ليس من إمكانية لفصل الإبداع، الأدب والفن، عن السياسة. فالقصيدة والقصة والرواية واللوحة والمشهد السينمائى والمسرحى والأغنية، كل هذا إنما يعبّر، بشكل أو بآخر، عن موقف الكاتب والفنان تجاه الحدث الدائر أمامه، فى بعده الاجتماعى والفكرى والسياسى والاقتصادى. مع ملاحظة أن الأدب والفن ليسا عودى ثقاب، لقدح كبريت المجتمعات، بل هما تراكم كمى غير محسوس يؤثر، بدرجة أو بأخرى، فى الوعى. وقد يكون رافدا مهما لمسلك الإنسان. وأظن أن هذا هو الدور الذى لعبه الأدب والفن العربيان، فلقد كانا على الدوام فى صف معاناة ووجع وأحلام الإنسان العربى، وكانا على الدوام محركا وحافزا للمطالبة بمزيد من الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ●إلى أى مدى يمكن أن يطال الكويت ما طال البلدان العربية من ثورات تحرر من الديكتاتورية؟ إذا كانت الثورات العربية قد جاءت لعتق المواطن العربى من الديكتاتورية، فإن الإنسان الكويتى ومنذ وجوده الأول على أرض الكويت عام 1613م، وفق المراجع التاريخية، كان حرا يتمتع بسقف عالٍ من الحرية والأمان، وتاليا حين نالت الكويت استقلالها عام 1961، وصَدَرَ الدستور الكويتى عام 1962، وجاءت أول انتخابات نيابية حرة، تأكدت العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكان مجلس الأمة الكويتى على الدوام هو صوت الشعب الكويتى بطموحه وآماله. لذا لا أرى إمكانية لثورة تحرر فى الكويت، وذلك راجع أساسا لانتفاء وجود الديكتاتورية. بل كل الفرص كانت دائما متاحة أمام الشعب الكويتى لمزيد من النقاش الديمقراطى العلنى الصريح والشفاف والسلمى، الذى تتوخى فيه مختلف الأطراف، مصلحة وأمن الكويت، ومستقبلها المشرق. ●تناولت فى صدر مجموعتك أزمة نفاق المسئول الحكومى، لكنك لم تمدّ قصتك لتناول منظومتى الفساد الإدارى والمالى، اللتين باتتا مفضوحتين للجميع؟ تمثل القصة القصيرة برأيى اصطيادا وتسميرا للحظات زمنية قصيرة عابرة، ومن ثم التشريح والحفر رأسيا فى هذه اللحظات لكشف أغوار حكايات أخرى. القصة القصيرة معنية بدائرة حدثها اللحظى، لكنها أيضا قادرة على رمى ظلالها لمحيطها الاجتماعى الأوسع. إن تعرية حالة نفاق لمسئول حكومى قد تحمل دلالاتها فى الإشارة إلى حالات أعم. القصة فى المحصلة هى محاولة مدروسة لإثارة السؤال والدهشة لدى المتلقى. ●غلبت على قصص المجموعة محاولات الكتابة على لسان أنثى، لكنك ومع ذلك لم تناقش بشكل مباشر قضايا المرأة الخليجية كما اعتادت أعمالا كثيرة أدبية أن تفعل، (وخليجية تحديدا باعتبار أن الخليج من أكثر المجتمعات قمعا للمرأة). من البديهى أن يكتب كل كاتب بوعيه وقناعاته وصوته الخاص، لذا فإننى تطرقت فى قصص المجموعة لطرح قضايا ومعاناة المرأة فى المجتمع الكويتى تحديدا، التى أشعر أنها باتت قضايا ملحة، وتشكل عاملا مشتركا لمعاناة يومية بين مجاميع نسائية كثيرة. وكون أن هذه القضايا جاءت مغايرة لما تقدمه أعمال خليجية، قصصية ودرامية، فربما أمكن النظر إلى ذلك بوصفه ملمحا إيجابيا يصب فى خانة صوت المجموعة المختلف. أما فيما يتعلق ب«اعتبار الخليج من أكثر المجتمعات قمعا للمرأة»، فإننى اختلف مع هذه الرأى، وأظن أن مجتمعات عربية كثيرة باتت أكثر قمعا وقسوة وظلما وجورا على المرأة العربية من مجتمعات الخليج، وأن هذه الصورة الذهنية بعيدة عن حقيقة واقع المرأة الخليجية، التى تبوأت مكانة أسرية واجتماعية وسياسية كبيرة ومعترف بها على أوسع نطاق. متحدية كل الصعوبات التى كانت ولم تزل تعترض طريقها. ●رغم انشغال معظم قصص المجموعة بالعلاقة الزوجية وتطورها، يسيطر عليها حسا محافظا، يلتقطته القارئ من تجنبك لسرد تفاصيل جسدية حميمة، بالرغم أن بعض القصص كانت تحتمل ذلك، فهل هذا رقيب داخلى؟ لا أظن أن «تجنب سرد تفاصيل جسدية حميمة» يندرج تحت وعى الحس المحافظ، ولا من باب الرقيب الداخلى، بل يمكن النظر إليه بوصفه الإشارة الموحية. فحين عبرت ساحة الكتابة القصصية والروائية العربية، بعض كتابات الجنس، فى أواخر ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، فربما كان لها ما يبررها فى حينه، أما فى وقتنا الراهن، زمن ثورة المعلومات ومحركات البحث ومواقع الإنترنت وأجهزة «الريسيفر» المنزلية اللاقطة لمئات المحطات الفضائية، فإن الغوص فى «تفاصيل جسدية حميمية» يعدّ بمنزلة اللعب فى الوقت الضائع. فمن يبحث عن تفاصيل جنسية حميمية، يمكنه العثور عليها بسهولة فى أى موقع إباحى، أو فى أى مجلة جنس، بعيدا عن البحث المضنى عن كلمة فى خبايا قصة قصيرة. أفهم القصة القصيرة بوصفها فن تكثيف الزمن وهذا يأتى متسقا مع اللغة البرقية الموحية. ●سردت كل قصص المجموعة، حتى التى جاءت بطلتها أنثى، بصيغة ضمير المتكلم، فلماذا اخترت أن تكون البطل والراوى فى اللحظة نفسها؟ أنا لا أحبذ الكتابة بصيغة الراوى العليم، وأرى أن اللحظة الإبداعية العالمية والعربية الراهنة قد تجاوزتها. إضافة إلى اعتقادى بأن الكتابة بصيغة الراوى العليم، يعدّ إخلالا فى عنصرى زمان ومكان القص اللحظيين، لذا أكتب القصة القصيرة وإحدى عينيىّ على الحدث والزمن والمكان اللحظى، بينما عينى الأخرى على أزمان الحكاية/ التذكر، وما بين الزمن اللحظى الراهن والقصير والمتسارع، وبين أزمان الحكاية/ التذكر، ينعقد حدث القصة. بعد ما يزيد على العقود الثلاثة من كتابة القصة القصيرة، أشعر أن صيغة ضمير المتكلم أقدر من غيرها على الوصول إلى قلب ووعى القارئ، سواء كان ذلك على لسان المرأة أو الرجل. أضف إلى ذلك حرصى على رسم شخصيات مستقلة تمثل نفسها، بعيدا عن صوتى وقناعاتى كمؤلف.