مصر بخير.. المصريون فى الصين بخير.. المصريون فى رواندا بخير.. تصريحات وكلمات تلقى يوميا تقريبا.. كلما وقع زلزال فى دولة أو جزيرة خلف قارة أتلانتس، أو حين تندلع حرب أهلية فى أفريقيا بين الماساى والزولو أو بين قبيلتى الهوتو والتوتسى.. حتى لو لم يكن هناك مصرى واحد.. لكن ماذا عن المصريين فى مصر.. هل هم بخير؟! المصرى اليوم.. محاصر بالفساد.. ومحاصر بمصانع غذاء بير السلم، وبالغذاء المسرطن بسبب استخدام المبيدات والإفراط فيها، والفلاح محاصر بذبابة الفاكهة التى تغتال محاصيله.. ومياه الشرب فى القرى والنجوع مخلوطة بمياه المجارى.. والجريمة تنتشر وباتت مفزعة، حتى إن مواطنا تم ذبحه فى الشارع أمام أصدقائه من المواطنين، فلم يتحرك مواطن واحد أسفا أو شهامة لتغطية الجثة بورقة جرنال، خوفا من الذابح الذى وقف يدخن سيجارة بعد أن أنهى الذبح فى الشارع.. ثم يقولون لنا إن مصر بخير؟! مراكز البحوث الاجتماعية فى البلد تصدر دراسات غاية فى الخطورة بصفة دائمة، صحيح أن عينات تلك الدراسات تبدو أحيانا منتقاة أو محدودة، لكن عندك مثلا مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية الذى ينتقد القانون الحالى المنظم لعمل هيئة محو الأمية، لأن هناك جهات تتحمل مسئولية مهمة فى محو الأمية وتعليم الكبار، لكنها جهات لا تُحاسَب حين لا تلتزم بعملها.. والموضوع أصلا الذى هو محو الأمية مبعثر بين 34 وزارة ومصلحة وهيئة حكومية.. والمؤسف أننى منذ مولدى أسمع عن محو الأمية، وكنت أستمع فى الإذاعة المصرية لبرنامج طريف ينادى الأميين ويستدعيهم بطلب قلم ومراية.. ومازالت مصر بعد 40 عاما تتحدث عن محو الأمية، بينما ماليزيا تحدثت عنها فى سنة وبعد ثلاث سنوات قضت على الأمية؟ وزير التنمية الإدارية د. أحمد درويش، وهو من أنشط الوزراء، وصف الرشوة بتعبير مهذب ولطيف بأنها «مدفوعات غير مبررة».. والمواطن المصرى أنهكته تلك المدفوعات غير المبررة، فهو كى يحصل على حقه البسيط والمشروع جدا مطالب بإلقاء «مدفوع غير مبرر فى درج المكتب» أو فى صورة جملة تحية بابتسامة صفراء تنطق بالكذب: «اشرب شاى»، وإلا سينتظر فى آخر الطابور، وحين يصل إلى الشباك، سيقولون له: «قفلنا النهاردة».. لعلك تسأل من هم الذين يقولون قفلنا النهاردة: إنهم عصابة المدفوعات غير المبررة؟! وبالمناسبة أسعار الشاى فى مصر مثل أسهم وول ستريت فى نيويورك مجنونة، ومتنوعة، فهناك شاى بربع جنيه، وشاى بربع مليون.. آى والله.. المهم تحت إشراف وزارة التنمية الإدارية قالت دراسة إن مصر تعانى من النفاق والواسطة والتمييز، والكذب والظلم.. ويمكنكم إضافة غياب الأخلاق، والشهامة والثقافة، والجدعنة، والروح الرياضية.. لكننى أختصر كل الغيابات فى غياب الضمير.. فقد وضع الله سبحانه وتعالى تلك الفضيلة كحارس وقاض داخل كل إنسان.. بل إنه فضل بها الإنسان على كل المخلوقات، فهذا الضمير لو كان موجودا، لما سمعنا عن استيراد شحنات دجاج فاسدة فى السبعينيات بحثا عن ربح سريع، ولو على حساب جثة مواطن، ولما سمعنا عن استيراد قمح فاسد، ولما سمعنا عن جزار حاول أن يبيع لحوم خنازير فاسدة على أنها لحم ضأن، ولما سمعنا عن مبيدات سامة تباع مغشوشة، فحتى السم يغشونه، يغشه رجال غاية فى الجشع، تعلو ثرواتهم كما تعلو جبال الرمل وهم يسألون كما تسأل نار جهنم: هل من مزيد؟ هؤلاء لا يدركون أن الرضا هو الغنى.. ومع غياب الضمير تغيب أهم ثلاثة أشياء فى حياة أى شعب: العدل والمساواة والحرية.. هل تستطيع حكومة فرض الإحساس بالضمير على مواطنيها؟! الضمير الغائب يفرضه القانون الصارم الذى يطبق على كل جشع وكل حرامى وكل قاتل وكل مزور وكل متاجر بالشعب.. الضمير الغائب تفرضه القدوة.. الضمير الغائب يعود بالعدل والمساواة والحرية وليس بالزيت والسكر وببطاقة التموين.. الضمير الغائب يرد لنا الانتماء الحقيقى الغائب.. القضية ليست أن نفرح بمائة ألف مشجع باستاد القاهرة يلوحون بأعلام مصر فرحا بالفوز على الكاميرون فى تصفيات شمال وغرب أفريقيا.. فنشدو جميعا بالانتماء وبحب المصريين لبلدهم.. هذا انتماء وقتى.. نريد الانتماء الدائم.. مصر لن تنهض دون هذا الانتماء.. دون الاستثمار الجاد والفورى والضخم فى التعليم، فهو قاعدة نهضة الأمم وتربيتها من جديد.. فطوال نصف قرن نحن نتعلم غلط أو لا نتعلم أصلا؟! ومصر لن تنهض أيضا دون الشعور الدفين الحقيقى أن الشارع شارعك.. والمصنع مصنعك.. والأرض أرضك.. والبلد بلدك.. الانتماء الدائم أن نعمل بجد.. ونلعب بجد.. ويكون عندنا ضمير.. مصر تحتاج جدا اليوم مشروع الانتماء الدائم.. ومشروع إيقاظ الضمير.. أسمع من يسأل بدهشة: يعنى إيه اسمه إيه ده.. ضمير؟!