ربما تتبادر إلى ذهنك تلقائيا الملحمة السينمائية «الرقص مع الذئاب» بمجرد أن تطّلع على عنوان هذا الكتاب الجديد «الرقص مع الفساد» للدكتور محمد رءوف حامد، العالم والمفكر الرصين، الذى أهدى هذا الكتاب بشكل أساسى إلى منظمة «مصريون ضد الفساد»، والاحتجاجيين، ورموز مقاومة الفساد فى الشارع المصرى الذين اعتبر أن عددهم لا يحصى، وإلى ذكرى مقاومى الفساد الراحلين عن عالمنا خلال السنوات القليلة الماضية، ومنهم نبيل الهلالى، والدكتور محمد السيد سعيد،والدكتور عبدالوهاب المسيرى. لا عجب فى أن يخص محمد رءوف حامد محاربى الفساد بإهداء كتابه، الصادر عن دار العين، وهو من قاد الأديب الراحل الدكتور يوسف إدريس حملة فى «الأهرام» لمساندته، ختمها بندائه الشهير «إلى رءوف حامد وإلى كل رءوف حامد فى مصر.. امضوا ضد الفساد»، خاصة أنه كان العربى الوحيد الذى اشترك مع 49 عالما من أرجاء العالم، أعوام 79، 80، 1981 فى تأليف الموسوعة الدولية للآثار الجانبية للأدوية، واستجمع كل قواه البحثية وقرر أن يضع أبحاثه فى خدمة أبناء وطنه، وتمكن من تأسيس مركز علمى شديد الأهمية وهو «مركز الإتاحة الحيوية» داخل هيئة الرقابة والبحوث الدوائية عام 1990. من خاف سلم «منذ ربع قرن لم يكن من الممكن لأى من المهتمين بالشأن المصرى العام أن يتخيل احتمالية وصول البلاد إلى وضعية التعاظم الراهن للفساد، أما الآن فالمفاجأة أن جهودا مؤسسية على مستويات قيادية مسئولة تحيك الإمكانات والوسائل فى صالح تمرير الفساد والتغطية عليه»، هكذا يقول رءوف حامد فى كتابه، معتبرا أن المأزق ليس فقط فى حماية المفسدين إنما أيضا إحباط المقاومين للفساد ولجوء بعضهم للمواءمة مع ما يجرى، وهذا ما أدى إلى ما وصفها بحالة ازدواج القيم العنيفة التى راح يعيشها المصريون، «الجميع يتحدث عن الفساد ويمقته، بينما الفساد يمرق عبر الجميع، مع تحاشى معظم هذا الجميع للمواجهة، عملا بمبدأ من خاف سلم، حيث تترك مقاومة الفساد لقلة باسلة، تتحمل النضال ضده، برغم التحولات غير الشرعية الحادثة، التى تؤدى إلى إنقاذ وتكبير المفسدين، وتحويل مقاومى الفساد إلى متهمين». تشريح علمى للفساد «الرقص مع الفساد» بات من وجهة نظر العالم الكبير وضعا سائدا، يرفضه الجميع ومع ذلك يمرق ويستفحل، مؤمنا أن تحجيم الفساد وإزالته يتطلب «تشريحا علميا» لأدواته وآلياته، لا سيما أن «الرقص مع الفساد فى بلادنا يمرره ويكسبه مناعة»، حسب تأكيد المؤلف وأن تتبع هذا التشريح العلمى ربما يحوله من المناعة والحصانة إلى إسقاطه بضربات قاضية متتالية كما حدث ويحدث بواسطة شعوب أخرى. الكتاب، الذى يقع فى 158 صفحة، ليس من طراز الكتابات الفضفاضة التى تحتكم للغو والحديث الفارغ عالى النبرة والحدة دون استنادات علمية وإحصائية، لكنه قدم تحليل علمى وحالات واقعية ونماذج للفساد الذى قسمه إلى ثلاثة أقسام: سياسى وإدارى ومالى، ولخصهم فى معادلة بسيطة وهى أن «الفساد السياسى يسبب فسادا إداريا يعطى الفرصة ويهيئ المناخ لحدوث فساد مالى»، ويتدرج من جديد بحيث يؤدى حدوث الفساد المالى إلى تصاعد العطش للمال ولمقاربة السلطة عند المفسدين والمستفيدين ماليا، وهو العطش الذى يولد ويغذى رغبات وتوجهات جديدة، أى إفساد سياسى، تجرى ممارساته على المنظومات الأدنى وهكذا، «الأمر الذى ينعكس فى المزيد من الدعم والتمكين للفساد السياسى على مختلف المستويات، عندها يصل التآزر بين المال والسلطة إلى حد التزاوج والاندماج، والذى تتضخم انعكاساته وتتغلغل مؤدية بالمؤسسة أو بالوطن إلى حد الخصخصة وشخصنة الفرص مثل الاستحواذ على الأراضى والمناصب، وتعميم العجز والحرمان على الغالبية»، حسب تحليل المؤلف. حلقات الإفساد يرى رءوف حامد أن الاكتفاء بمواجهة الفساد المالى يعنى الإبقاء على منابع الفساد ومدخلاته مما يؤدى إلى إتاحة الفرصة للتواصل فى استقواء الفساد، فمداخل عمليات الإفساد فى كل مؤسسات الدولة تتكون من الفساد السياسى وهو الفساد فى التوجهات وصناعة الأهداف، ثم الفساد الإدارى أى تطبيق وإعمال الفساد السياسى فى أرض الواقع، ثم الفساد المالى وهكذا تنشأ حلقات الإفساد. ينقسم الكتاب إلى 5 فصول تعرض لتأصيل الفساد فى الكتابات العلمية المتخصصة، والبنية الرئيسية للفساد، وعرض لعدد من الحالات الواقعية التى سعت للتصدى للفساد، من بينها الحالة السنغافورية والسويدية والمصرية، وينصح رءوف حامد القارئ بمحاولة حصر مداخل وعلاقات وحركة الفساد الحى فى حياته اليومية ومجتمعه الصغير، على اعتبار أنه بذلك يقوم بتشريح الفساد، وسيكون هذا التشريح أنجح إذا جرى فى سياق جماعى، وعندها على حد تعبيره «أنت ومن معك تمنعون الرقص مع الفساد وتضعفون مناعته».