حركة التاريخ تثير العجب فلا تعرف لها حالاً ثابتاً و أمراً دأماً،فربما التاريخ يسير منفصلاً عن البشر لا يعبء بأحلام الشعوب و الامم أو يسير مجبراً خلف أهواء الرجال فيحكم بالاعدام على شعب و يحيي شعب و يسطر أحداثاً لا نعرف لها معنى أو حكمة. التاريخ في كلتا الحالتين عبثي و ربما أهوج و لكن ايماننا بمدبر الكون يعطينا الأمل وسط هذا العبث و أحياناً يخفف من سطوة التاريخ المكتوب على رقابنا. إن دارسي التاريخ معنيين بفهم هذه الحركة و محاولة التعلق بأمل فهم دوافع البشر و الظروف المحيطة التي تحكم حركتهم. في السطور القادمة سأضع عيني على مصر, محاولاً إعطاء صورة مبسطة عن هذه الأرض و لن يكون دوري التغزل في تاريخها فهذه وظيفة المؤرخين الأعلم بلأحداث, و الساسة الأكثر إنتهازاً لللحظة, و القصاصين الأكثر خيالاً والأصدق تعبيراً, و المعلمين في المدارس المقدسين لتاريخ الوطن أو هكذا كتب و فرض عليهم. سأكتب على نفسي أن لا أكون محللاً للأحداث فإذا كانت تلك مهمة المؤرخين و لست بمؤرخ فلأحداث ستبعدنا عن روح المكان، إن روح المكان هو البشر, فسأكون مؤرخاً للبشر.مؤرخا لما كتبته حركة التاريخ علي اهل مصر و رؤية جد بسيطة و سريعة لحياة بشر عاشوا و ماتوا مع الزمن. إن محاولة فهم البشر لها تراث قديم في تاريخ الانسانية فقد كان الكهان و رجال الدين يعالجون من قد أصابه شيطان من مس المرض النفسي بنظرة عميقة للنفس و تحليل مركب لمشكلتها، و التاريخ ينبئنا عن أهل الفراسة و قرأة الوجه و الولوج إلى أعماق النفس بجوانبها المظلمة و المشرقة على السواء. إن محاولتي في السطور القادمة هي قراءة لوجوه قد عانت من التاريخ و رؤية نفسية لأحوال البشر في أرض كتب عليها أن تكون مركز العالم و كتب على أهلها أن يكونوا بعيداً عنه. لقد وعدت أن لا أمر بجانب الأحداث لكن أحياناً يكون عظام البشر مقرونين بألاحداث. إن لحظة ميلاد مصر تبلورت حين قام ملك، بل رجل قبل أن يكون ملكاً، يسمى نارمر موحد قطري مصر و أول الفراعنة. رجل كما كل العظماء من أهل الحكم تنسج حولهم الاساطير لتعطيهم هالة من التقديس و التقدير عند عامة الشعب و تخلد ذكراهم إلى الأبد في دفترالانسانية إن غاب المؤرخين عن الساحة أو غيبت أعمالهم. رجل كما تقول الاساطير علم المصريين عبادة الألهة و نقلهم من تقديس الطبيعة و قانونها إلى تقديس ما وراء الطبيعة و بناء القانون الانساني الخاص الذي سيرسم معالم الحضارة التي تمركزت حياتها السياسية و الإقتصادية و الأجتماعية بجانبها الأخلاقي حول الدين و يشهد ما تبقى من منجزاتها المعمارية من معابد و مقابر على تقديس الانسان و السماء و ما وراء السماء. لقد كان الدين هو مركز حياه الانسان القديم عموماً و المصري خصوصاً حتي يومنا هذا, فرغم طغيان تيارات العلمنة و الحداثة في مصر الحديثة فمازال الدين هو مركز الحياه من حضر مصر إلى ريفها و ان تغيرت الصورة قليلا. إن العنصر الجامع لوعي الإنسان المصري هو ثنائية النيل و الأرض, ثنائية الفيضان و الجفاف, ثنائية الحياه و الموت. يمكن من هذا السياق, فهم تقديس المصريين القدماء للموت و ايمانهم بأن الموت هو دورة من دورات الكون حيث تعقب الحياه الموت فيعقب الموت الحياه و ربما هذا أساس إيمان المصريين بحياة الأبدية منذ القدم و اساس الاحتفال بالموت علي مر عصور مصر المختلفة حتي هذا اليوم. لقد شكلت ثنائية النيل و الأرض مركزاً لحياة المزارع المصري القديم، بدايةً بتقديس النيل و إهداء مياه الجارية أجمل بنات المصريين عرفاناً بفيضان الخير الماضي و أملاً بفيضان الغد الأتي, الي تشكيل المجتمع الزراعي أساس العادات و التقاليد التي ورثها الفلاح المصري التي استمرت تشكل وجدانه و تكون اساطيره الممتدة في العصور القبطية و الاسلامية و حتي العصر الحالي المملوء بالحكايات الشعبية الصعيدية العريقة التي أخبرنا عنها الشاعر الأب الفذ عبد الرحمن الأبنودي. لقد وعدت أن أتكلم عن البشر و سأتكلم عن فلاح مصري متواضع بحاله عظيم بشخصه، عم السيد إدريس جمع بين أبي و عم السيد صداقة قديمة تربو على الثلاثين عاماً و إنطباع أبي عن عراقة هذا الرجل تتمثل في كونه أب ربى أبنائه على قيم الدين و الأخلاق و الجد و العمل، وناشط في المجتمع الزراعي في منطقة شمال الدلتا يعمل في الجمعية الزراعية(هي جمعيه حكومية تعني برعاية الفلاح و تنمية الثورة الزراعية و الحيوانية) , قدم عمره لخدمة الفلاح المصري و كافح المحسوبية والفساد داخل هذه المؤسسة و أيضاً رجل تفانى في خدمة أرضه و رعاية بيته. إن معاشرتي البسيطة لهذا الرجل لم تمنعني من أن اسجل ملاحظاتي. عم السيد رجل ترى في تجاعيد وجهه سنين كفاح و ترى فيها ملامح المصري القديم المرسوم على جدران المعابد و المقابر الفرعونية. أري في قدميه المختلطة بتراب الأرض و سواد الطين إرتباط قديم وأصيل بهذه الأرض و هذا الوطن. حينما تحدثه و ترى في نبرات صوته شكوى من حال التاريخ الذي ظلم هذا الشعب على مر السنين. عم السيد هو إمتداد لثنائية قديمة، ثنائية الأرض و الانسان، ثنائية شكلت تاريخ الإنسانية منذ خلق أدم و كونت وعيه و الهمت وجدانه. إذا كتب التاريخ على الانسان حياة الريف و تطور مفهوم القرية و الارتباط بالأرض فقد كتب التاريخ أيضاً على الانسان نمطاً جديداً من الحياه والسكن. فقد نشأ مفهوم المدينة كتطوير ثوري للحياه الاجتماعية و إستجابة للتطور التكنولوجي المتمثل في توسع النشاط الانساني بكافة جوانبه و خاصةً السياق المعماري المتفاعل مع الطبيعة. المدينة هي إبداع تكنولوجي و إختراع غير وجه المجتمع البدائي, و انشئت نظاماً أخلاقياً جديداً لإدارة النظام المجتمعي. إن من حسنات المدينة تقديم صور جديدة للحس الجمالي, و الانسان مخلوق فني يقدر الجمال بفطرته و المدينة طورت هذا المفهوم في البناء المعماري و هندسة المساحات و الحدائق و الأماكن العامة. فأصبحت القاهرة مركز حياة الحضر في مصر و صورة جمالية مرسومة متمثلة في تاريخ الطويل مع العمارة الاسلامية و القبطية. و لكن اصبحنا عرضة للتيار الطاغي للحداثة فأكسب القاهريين مفهوم جديد للحس الجمالي و ربما افقدنا الحس الجمالي التقليدي و جعلنا نتوه في التطور العشوائي و استيراد أنماط معمارية تخالف البيئة المصرية و إن اظهرت فائدتها في إستيعاب النمو السكاني الضخم. إن الحداثة القت ظلالها على نمط حياة المصريين في الملبس و المأكل و الإحتفال و التعليم و الاعلام و حياة المراة. فأصبحت هناك رموز للحداثة ظاهرة في الصورة الحياتية للمصريين و اهم رموز حداثة السوق الحر هو المول التجاري فأصبح رمز القاهرةالجديدة هو "سيتي ستارز" المول التجاري الرئيسي في القاهرة, فتجد قدرة علي التسلل الي أنماط حياة تدعو الي الأقتصاد و عدم الأسراف، فتري المول يجمع الشباب المتدين المحافظ و الشباب المتحرر. إن الحداثة المقرونة بالعلمنة الشاملة لم تجد طريقها بعد للمجتمع الحداثي المصري حيث لازلت تجد المسجد ذلك العنصر الديني المقدس في قلب المول التجاري. فأضحت حداثة معتدلة اعطت للمصري حيز من اجل موروثه و ثقافته. على الصعيد الأخر في جانب القاهرة القديمة و ضواحيها فقيرة أو متوسطة الحال تجد الحداثة قد وجدت طريقها إليها لكن بمعدلات علمنة أقل فمازلت تحتفظ بنسيج إجتماعي يحمل عادات و تقاليد قريبة إلى الريف و تحمل منظومة أخلاقية مختلفة. فتري صور مختلفة للنشاط الانساني و عبقرية المكان تتجلى في البيوت البسيطة و النساء المهرولات للعمل و الاطفال المشاكسون و حتي المراكز الحرفية بصناعها المهرة. فأنا دائم الإعجاب بهؤلاء الفنانين و الصناع المهرة فهم يحملون موهبة فنية و عقلية تؤهلهم ليكونوا من رواد الفنون و العلوم إذا نشؤ في ظروف مختلفة. فتجد في عملهم صورة ممزوجة بالفن و المهارة و الصبر. مرةً أخرى كما وعدت لن أنسي أن أؤرخ للبشر صناع الزمان و المكان. عم محمد أرنب فني مكانيكي عبقري بمعنى الكلمة, يعيش في حي عين شمس, يشع طيبةً و زكاء، تجد في حديثه ذو الصوت الخفيض متعة و أدب. عم محمد قصير القامة، أسمر البشرة لا ينسى أن يشتكي من حال البلد و يعطيك درساً في الصبر و التحمل فهو يعمل موظف حكومي أول اليوم ثم يتفرغ للورشة باقي اليوم. عم محمد و عم السيد يعطون صورة حية لملح هذه الارض, انهم يمدونا بصورة الشخصية المصرية التي نزلت الي الشارع يوم 25 يناير, تحمل بين يديها احلام و هموم هذين الرجلين. صورة تحمل رمزيتها في عنصري المدينة و القرية, المملؤان بلأسرار و الاحلام . ارجو ان تكون الثورة المصرية وسيلة لتأمل عالم القرية و المدينة و فهم لغز الشخصية المصرية المخبىء في بطن هذه العوالم