أصاب الكثيرين حالة من القلق بل التوتر لما وقع على آذاننا فجأة من تعبيرات من قبيل «لا بد من تفعيل المادة الثانية من الدستور»، «التصويت بنعم واجب شرعى»، و«انتهاء حكم مبارك هو الخطوة الأولى فى بناء الدولة الإسلامية». وهى عبارات غير منضبطة جعلت الكثيرين يتخوفون من أن مصر ستبدل الأتوقراطية (أى حكم الفرد المستبد) بثيوقراطية (أى بحكم اللاهوت الدينى الذى يدعى لنفسه الحديث باسم الخالق سبحانه). وهو ما يجعلنا بحاجة لتأصيل القضية بالعودة إلى الخطابات الدينية السائدة فى مصر، وكيف أن الدين ينبغى أن يكون فى مكان واحد لائق به. والقضية لها جذور خارج نطاق المجتمع المسلم حين وجه البعض سؤلا للسيد المسيح، بغرض إحراجه، أيحل دفع الجزية إلى قيصر أم لا؟ فرد بقوله أرونى النقود التى تدفعونها كجزية، فأتوه بقطعة نقدية، فقال لهم لمن هذه؟ قالوا: لقيصر فقال لهم: أدوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وقد فسرت هذه العبارة من قبل مفكرى عصر النهضة الأوروبية لتعنى أن السيد المسيح حسم الصراع السياسى ليكون مجاله الدولة وليس الدين، وليعلنها مدوية أن الفصل المؤسسى بين دوائر صنع القرار السياسى ودوائر العبادة مسألة حتمية لوضع حد للاستبداد باسم الدين وللحرب باسم الدين. فسؤال من يحصل على ماذا متى وكيف ولماذا هو سؤال سياسى يخضع لنظام الدولة شكلا وتنظيما وإدارة وليست مسألة إلهية دينية. وأيا ما كان رأينا فيما وصلوا إليه، لكنهم وصلوا إلى حل ما لمشكلة شديدة التعقيد لأنها تضرب فى صلب علاقة الدولة بالمجتمع بل وبعلاقة طوائف وفئات المجتمع المختلفة بعضها ببعض. المشكلة فى مصر أن هذا السؤال سيفتح ويحتاج روية وعقلانية شديدة وألا تسيطر علينا روح التوتر أو العصبية حتى نتجنب تأجيج ما سماه المستشار طارق البشرى «حربا أهلية ثقافية» يتحول فيها الدين الذى هو حمال أوجه أصبح ذاته ساحة للجدل بل والصراع الفكرى والسياسى. ولنتأمل الخطابات الدينية التى ترسم خريطة الخطاب الدينى المعاصر. فأولا هناك خطاب إسلامى شعائرى يحصر الإسلام فى الجوانب الشخصية دون أن يكون له دور فى التشريع أو الفعل السياسى وهو نموذج الإسلام المحدود فى مساجد للعبادة ويكون دوره قاصرا على قضايا العقيدة والأخلاق وهو ما كانت تمثله الحالة التونسية فى عهد بن على ومن قبله بورقيبة نموذجا واضحا له. ويتبنى هذا الخطاب عادة العلمانيون والمسيحيون الذين يطالبون بإلغاء المادة الثانية من الدستور المصرى، بل ويدعمه صارحة أو ضمنا الكثير من رموز الجماعات الصوفية. فالإصلاح عند هذا الخطاب يعنى انحسار الدور العام والسياسى للإسلام وللدين بصفة عامة. ثانيا: خطاب إسلامى شكلى يركز على بعض النصوص الرمزية المنصوص عليها فى الدساتير وبعض القوانين من أجل إعطاء واجهة شكلية لنظام الحكم وهنا يريد الحاكم شرعية الإسلام دون قيوده. وقد أعلن عبد الناصر عن احترامه للأزهر فى حين أنه أطاح ببعض علمائه بل وباستقلاليته بحجة أنه يغلب عليه الفكر الرجعى لرفض قياداته الافتاء بجواز تأميم الشركات المملوكة للأفراد، وكذا نص الرئيس السادات فى المادة الثانية من الدستور المصرى على جعل مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع مع يقيننا جميعا أنه ما كان ليطبق الشريعة. وكان هذا إلى حد بعيد منطق الرئيس مبارك الذى تبنى هذا الاتجاه بغض النظر عن مطالب العلمانيين والمسيحيين بإلغاء نص المادة الثانية ومطالب الإسلاميين بتفعيله. ثالثا: خطاب إسلامى ضاغط تتبناه جماعات منظمة أو حركات عفوية من أجل تحقيق مصالح قصيرة المدى مثل الخروج فى مظاهرات من أجل منع تداول رواية أو للاحتجاج على قرار سياسى معين. وقد تلجأ المؤسسة الإسلامية الرسمية مثل الأزهر والجماعات الإسلامية إلى تبنى مثل هذا الخطاب ضاغطة فى اتجاه بذاته، ولكن عادة ما تنجح الحكومة المصرية فى استيعاب هذه الضغوط سواء بالمزايدة فى رفع الشعارات الدينية أو بالقمع أو بهما معا. والمثال الأقرب إلينا موقف أعضاء مجلس الشعب السابق من نواب الحزب الوطنى من تصريحات وزير الثقافة السلبية عن الحجاب فى مرحلة سابقة. رابعا: خطاب إسلامى حزبى يقدم الطرح الإسلامى باعتباره بديلا من البدائل المتاحة أمام الناخبين بهدف تكوين الأغلبية فى البرلمانات. ويكون جزءا من هذا الخطاب هو صياغة برنامج حزبى له جوانب اقتصادية واجتماعية وثقافية باعتبارهم يمثلون حلا أفضل من الحلول التى تطرحها الأحزاب القائمة. وعادة ما تؤكد هذه المدرسة على قبولها فكرة الدولة المدنية لكنها ترغب فى أن تعمل على أساس من المرجعية الإسلامية استنادا لنص المادة الثانية من الدستور. ويمثل حزب الوسط وحزب الإخوان القادم ومعه حزب المنشقين الجدد عن جماعة الإخوان هذا المنطق. خامسا: هناك خطاب إسلامى ثورى انقلابى يهدف إلى نقض الوضع الراهن باعتباره خارجا على الإسلام كما فهمه السلف والقضاء على أى خطاب آخر باعتبار أن الإسلام ليس بديلا موضع الاختيار بين الناخبين أو موقفا فكريا يتبناه مثقفون. وهو الخطاب الذى تتبناه جماعة الجهاد ومعظم رموز الجماعة الإسلامية قبل المراجعات الأخيرة. ولا يبدو واضحا بالقدر الكافى تقييم القيادات التى خرجت مؤخرا من السجن بشأن الوضع الراهن. وكيف ينظرون إلى القوى السياسية الأخرى سواء العلمانية أو الإسلامية. سادسا: هناك خطاب إسلامى تأسيسى يجعل من الإسلام إطارا مرجعيا فوق الصراعات السياسية مثلما تمثل الليبرالية إطارا تأسيسيا للحياة السياسية فى النظم الغربية. وتكون نصوص الإسلام القطعية إطارا مرجعيا مثل إعلان الاستقلال الأمريكى أو الماجنا كارتا البريطانية والتى تشكل قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، ولا يجوز التسامح مع تجاهلها. وهذا الخطاب يعنى بالتبعية إنتاج أطر قانونية من قبيل المحكمة الدستورية العليا فى الولاياتالمتحدة من أجل الرقابة على عدم تعارض القوانين والقرارات مع ما هو قطعى الثبوت وقطعى الدلالة من مبادئ الإسلام وشريعته. ويقدم مثل هذا الطرح بعض المفكرين الإسلاميين مثل المستشار طارق البشرى والدكتور أحمد كمال أبوالمجد على سبيل المثال لا الحصر. وهنا يكون المعنى هو التعايش مع القوانين الوضعية التى يمكن أن تكون مقبولة فى إطار الشريعة تحت مظلة أى اجتهاد لأى مدرسة فقهية؛ فمثلا البنوك المعاصرة تعتبر مقبولة طالما أن هناك علماء دين معتبرين يرونها لا تخالف الشرع الشريف من بعض الوجوه. هذا الخطاب الأخير يبدو لى الأكثر ملاءمة لمصر لأنه يمنع على أى جهة أن يستخدم الدين كأداة للتجنيد الحزبى أو للحشد التصويتى أو للدعاية الانتخابية أو الادعاء بأن مجموعة من ممثلى الشعب يتبنون خطابا مقدسا لا يمكن الاقتراب منه. هو خطاب دينى يقر أن أحدا مهما كان لا يستطيع أن ينزل الناس على حكم الله فى المسائل الخلافية. وكما جاء فى الحديث: «وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله. ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا) رواه مسلم. بهذا المعنى فإن المكان اللائق بالدين ليس ساحة التنافس الحزبى أو الدعاة الانتخابية أو حشد الأصوات. وإنما هو الإطار الجامع للأمة الذى نحترمه جميعا. والأفضل ألا نستخدم ألفاظا من قبيل «حزب إسلامى» أو المعنى المضاد «حزب متأسلم» أو «حزب إسلاماوى» وليظل الإسلام بعيدا عن هذا التنابذ ولنصف هذه القوى بأنها أحزاب محافظة، وأنا عن نفسى بدأت أدرب لسانى بالوقوف عن استخدام لفظة «الإخوان المسلمين» أو «الجماعات الإسلامية» وأكتفى بوصفهم بأنهم «الإخوان» أو «الجماعات» وهذا ليس تقليلا من شأنهم لا سمح الله، ولكن إعظاما من شأن الإسلام وحتى لا ينتسب إلى مجموعة دون أخرى. وأدعو صراحة فى الدستور القادم أن يكون هناك نص صريح بعد اتفاق مجتمعى يجرم على كل شخص أو حزب أو جماعة يثبت فى حقها أنها رفعت شعارات دينية أو استخدمت نصوصا دينية لأغراض التجنيد الحزبى أو حشد الأصوات أو الدعاية الانتخابية. هذا سيضمن لنا أن يكون الدين فى مكانه اللائق به كبوصلة عامة للمجتمع والدولة ككل، وليس سيفا يدعى البعض امتلاكه ضد الآخرين.