فى ندوة لمناقشة الأوضاع الحالية فى مصر وسبل التحرك قدما، تطرق الحديث إلى الأهمية القصوى لسرعة استعادة الأمن، وصدور موقف واضح من قيادة الدولة يؤكد استمرار جهود إصلاح الاقتصاد المصرى، وإذا بأحد شباب الحاضرين ينبرى قائلا: «ومن قال إننا نريد إصلاحا اقتصاديا؟». موقف هذا الشاب هو تعبير بليغ عن الريبة إن لم يكن الرفض الكامل الذى يتعامل به قطاع عريض من الشعب المصرى مع «إصلاح اقتصادى» لم يذق ثماره، ومع توجه أصبح مرادفا فى الوعى الجمعى للأمة للفساد، والتربح بدون وجه حق، واتساع هوة الفجوة بين الأغنياء والفقراء. موقف هذا الشاب هو أيضا انعكاس لموقف بعض الثوار الرافض لأى حديث عن ضرورة توقف الاعتصامات والمطالبات الفئوية وعن تأثيراتها الاقتصادية السلبية الحالية والمستقبلية قبل إتمام تحقيق مطلب الثورة الأساسى فى السقوط الكامل للنظام السابق، انطلاقا من أن «لا صوت يعلو على صوت المعركة». أما وأن يقينى الجازم هو أن الاقتصاد هو أحد أهم ميادين المعركة، أطرح النقاط التالية: أن لأى تحول سياسى واجتماعى على شاكلة ما بذل المصريون من دمائهم للوقوف على أعتابه اليوم فاتورة اقتصادية باهظة، يجب أن تتحملها الدولة والمجتمع والفرد عن طيب خاطر، أما مضاعفة هذه الفاتورة وأعبائها عن علم أو دون علم لتحقيق مكاسب محدودة فيجب أن يستند إلى حساب وطنى تعطى فيه الأولوية المطلقة للاعتبارات العامة على الاعتبارات الخاصة أو الفئوية. أقول ذلك لأن الاقتصاد المصرى يواجه اليوم عاصفة عاتية تدفعه دفعا باتجاه كارثة محققة، سيتوقف عمقها وشدتها فى النهاية على ما نتخذه اليوم من قرارات وإجراءات وخيارات. فانعدام الأمن أدى إلى تباطؤ النشاط الاقتصادى، وإلى حالة من الترقب المشوب بالحذر، عمقها: غياب التوافق الوطنى بشأن طبيعة المرحلة الانتقالية، وجدولها الزمنى، وتسلسل استحقاقاتها السياسية (تعديل الدستور أم تغييره أسبقية إجراء الانتخابات التشريعية أم الرئاسية). الطبيعة الانتقالية للحكومة الحالية ذاتها، وعدم وضوح المنحى الذى ستتخذه اقتصاديا، وهل سيقتصر دورها على تسيير الأعمال بالمفهوم الضيق للكلمة، وهو الأغلب، أم يتوسع ليشمل اتخاذ إجراءات سريعة لاستعادة الثقة المفقودة. التحقيقات الواسعة التى تجريها الجهات القضائية والرقابية مع عدد من رجال الأعمال، خاصة من انخرطوا فى العمل السياسى أو كانوا على اتصالات وثيقة بدوائر صنع القرار فى الحكومة السابقة، فى قضايا تتراوح بين الفساد والإثراء بدون وجه حق، وهى التحقيقات التى وإن أشفت غليل شعب غاضب وعن حق لنهب أمواله وأراضيه، ووفرت إحساسا طال افتقاده بالعدالة والمحاسبة، فقد أسفرت أيضا عن وضع القطاع الخاص المصرى بأكمله، بما فى ذلك الشرفاء منه وهم أغلبية، فى موقف الترقب والانتظار. وكأن الأمور لم يكن لها أن تسوء أكثر من ذلك، فإذا بالاقتصاد المصرى يتعرض لسلسة من الصدمات الخارجية المتزامنة والعميقة: الثورات الشعبية والاضطرابات والقلاقل فى ليبيا وغيرها من الدول العربية، والتى كان إحدى نتائجها عودة مئات الآلاف من المصريين العاملين فى تلك الدول إلى الوطن للانضمام إلى الصفوف الطويلة للمتعطلين عن العمل. الاضطرابات الحالية (والمحتملة) فى عدد من الدول المصدرة للنفط مما أدى إلى ارتفاع أسعاره العالمية. عودة أسعار الغذاء للارتفاع عالميا نتيجة لكل ذلك، فإن الحكومة الحالية لمصر أحد أكبر مستوردى الغذاء فى العالم ومستورد صافى للنفط ومشتقاته ستكون قريبا جدا أمام خيارين كلاهما مر، الأول هو تحويل تلك القفزات السعرية إلى كاهل المستهلكين، وهو ما يمكن الجزم باستحالته فى الظرف السياسى الحالى، والثانى هو تحمل الدولة إن استطاعت لتلك الفروق، استنادا إلى نفس المنطق المبرر سياسيا والكارثى اقتصاديا للإجراءات التى أعلنت عنها الحكومة والوزارات والهيئات والشركات التابعة لها فى الأسابيع الماضية من تثبيت الالاف المؤلفة من العمالة المؤقتة وزيادة أجور العاملين بالقطاع الحكومى والأعمال، دون ربط ذلك بانتاجية العامل أو كفاءته، وفى تناقض واضح مع أبجديات علم الاقتصاد. إننى ومع تفهمى الكامل للمنطق السائد حاليا والداعى لإطفاء الحريق قبل بناء البيت الجديد، لا أستطيع أن أخفى قلقى من تحول منطق الظرف الطارئ إلى منطق دائم، فمن ناحية لا يوجد ضمان لأن تؤدى جميع الإجراءات التى تتخذها الحكومة حاليا إلى تخفيف الضغوط عليها، بل إننى لن أتعجب إذا ما انتهينا إلى الأثر العكسى باستمرار تلك الضغوط واشتدادها. من ناحية أخرى، فلا يمكن لأى عاقل أن يغض النظر عما نعرفه يقينا من أثار مدمرة للإجراءات الحالية، وعلى رأسها تعميق الاختلالات الهيكلية، التى عانى منها الاقتصاد المصرى على مدى عقود، وهو ما ينقلنى إلى النقطة الأهم. إن تحول النظام الاقتصادى المصرى من الاشتراكية إلى الرأسمالية الحقة قد استغرق حتى الآن أربعة عقود كاملة ودون إنجاز المهمة، بدء بسياسة الانفتاح فى السبعينيات، مرورا ببرامج الإصلاح الاقتصادى والتكيف الهيكلى فى التسعينات، وانتهاء بسياسات الحزب الوطنى الديمقراطى فى السنوات الأخيرة. أربعة عقود كاملة، بالمقارنة بعقد من الزمان أو أقل فى الدول التى يتندر بها المصريون حاليا، لم تكن كافية لإنجاز مهمة نقل الاقتصاد المصرى إلى اقتصاد عصرى يطلق العنان لطاقة الفرد، أو تشجيع مبادرة القطاع الخاص الوطنى وإقدامه، أو توفير حلول لمشكلات مصر المزمنة، بدءا بالأمية، مرورا بالبطالة، وانتهاء بالفقر، أو إصلاح ما أفسدته عقود من تضخم البيروقراطية المصرية وعدم كفاءتها، ناهيك عن إقامة وتفعيل الأجهزة التنظيمية والرقابية كضمانة ضد فشل قوى السوق وتشوهاته، أو ضمان حكم القانون والعدالة الناجزة التى تحصن المجتمع ضد النهب والغش والفساد. إن الاقتصاد المصرى بعد أربعين عاما من سياسة الانفتاح الاقتصادى لا يزال أسيرا للريع سواء مما يستخرجه من باطن الأرض (البترول والغاز)، أو من علاقاته الخارجية (المعونات)، أو الموقع (قناة السويس) أو التاريخ (السياحة) أو من تحويلات عامليه فى الخارج، وفشل على الأقل بالمقارنة ما أنجزه الآخرون فى التحول إلى اقتصاد منتج ومصدر يضع الابتكار وتنمية البشر فى بؤرة العملية التنموية. هذا هو جوهر المعضلة التى ينبغى على كل من رأى فى نفسه القدرة أو الرغبة فى إدارة هذا الوطن أن يتعامل معها، وأن يضع أمامنا وبكل الشفافية رؤيته لتخطيها، مدعومة باستراتيجية للتنفيذ، وجدول زمنى نحاسبه عليه، مع شفافية كاملة فيما يخص الثمن الذى سيتعين علينا دفعه لكى نضع أقدامنا وبحق على أول الطريق الصحيح، ودون إهدار للوقت فى مهاترات بشأن الرجوع إلى الاشتراكية أو غيرها من نماذج التنمية الاقتصادية التى أثبتت التجربة، وبما لا يدع مجالا للشك، فشلها. إننى من المؤمنين بأن سببا رئيسيا لسقوط النظام السابق كان اعتقاد من أداروا أمور البلاد خطأ بأن نمو الاقتصاد يمكن أن يكون بديلا عن حق الشعب فى العيش فى حرية وديمقراطية وعدالة، وأن إشباع البطون يمكن أن يكون بديلا لإشباع العقول، فلا هم ملأوا البطون ولا العقول. تقدم الاقتصاد قليلا، وتوقفت بل وتراجعت السياسة، فكان الترنح ثم السقوط حتميا، وبالمثل أقول إن قلب الآية إلى وضع تتقدم فيه السياسة ويتراجع الاقتصاد، هو مقدمة لترنح وسقوط سيكون حتميا. إن الإصلاح الاقتصادى القادم كما ينبغى له أن يكون يجب أن يعنى التوجه المنظم والمدروس إلى الحرية الاقتصادية، وليس إلى الرأسمالية الطفيلية أو القائمة على المحسوبية والفساد بحد وصف العظيم إبراهيم شحاتة فى كتابه «وصيتى لبلادى»، فى إطار من حكم القانون، ودولة المؤسسات، مع الاعتراف بإمكانية فشل قوى السوق، والحاجة من ثم إلى تدخل محدد ومحدود للدولة.