إلى حفيدى الثانى الذى لم تتضح معالمه بعد لعل قدومك سيكون بشيرا بزوال ظاهرة مدن القمع والاختفاء.. وسيكون حافزا لى على مواصلة الإبداع فى مناخ من الحرية والعدالة.. فعجل يا ولدى بالوصول فنحن كلنا فى انتظارك ». هذا هو الإهداء النبوءة الذى صدر به الروائى النوبى الراحل إدريس على روايته الأخيرة «الزعيم يحلق شعره» قبل عام من الآن، وتناول فيها الأوضاع فى ليبيا خلال فترة السبعينيات إلى بداية الثمانينيات، حيث كان الكاتب يعمل ويقيم، لتتقاطع الرواية مع الجزء الرابع من سيرته الذاتية التى بدأ تسجيلها عبر أعمال: «تحت خط الفقر»، «مشاهد من قلب الجحيم»، و«انفجار جمجمة»، ويتقاطع فيها القمع فى القطرين الشقيقين المصرى والليبى على التوازى، وإن كان المكان والحدث قد سحبا التركيز الأكبر إلى طرابلس . للوهلة الأولى يوهم عنوان الرواية التى أثارت وقت صدورها جدلا حال دون قراءتها، حيث صودرت نسخها واحتجز ناشرها صاحب دار وعد من قبل الأمن المصرى ثم أفرج عنه بعدها بساعات، يوهم العنوان بأن مركزها شخص الزعيم الليبى المجمع على غرابة أطواره، والتى لا تقف عند حد حظر مهنة الحلاقة وقيام كل شخصِ حتى هو بالحلاقة لنفسه، والرواية بالفعل ليست بعيدة عن القذافى لكنها تشير إلى الرجل عبر سياساته ومواقفه وقراراته التى تسبقها أحلام تنقلها إلى حيازة الواقع، باستثناء مواضع قليلة تأتى على لسان أحد الشخوص مثل: «توقف أمام مبنى وزارة الداخلية قائلا: أشبح؟!.. مشيرا إلى الشعار المكتوب على واجهة المبنى.. قرأت: (إلغاء القوانين المعمول بها الآن واستمرار العمل الثورى) بلد بلا قانون.. كيف تكون تكره الزعيم ليس بالضبط.. ولكنى لا أعرف إلى أين سيقودنا بثورته.. لا صحف ولا تنقل بسهولة». أو على لسان الراوى البطل مثل: «فهو لا يتسامح أبدا مع من يسىء إليه وإلى قوانينه وقراراته التى لا نهاية لها.. ينام فيحلم فتصبح أحلامه قرارات.. فهو متقلب وحاد المزاج ولا تعرف له رؤية واضحة للكون والعالم، فصديق الأمس هو عدو اليوم.. فهو مثل الطبيعة يمر بالفصول الأربع يخلط بين السياسة والدين والعلم دون فرامل ..» وهكذا يكون التعرض لشخص العقيد المتضخم هو التهمة التى لا يُنتظر إثباتها من أجل التنكيل بأى خصم، وخاصة إذا كان غير ليبى، كما هو الحال مع بطل الرواية وبعض أقرانه المصريين ممن ابتلعتهم الأرض بسبب وشايات من ذلك النوع . فى الرواية ثمة حدوتة بسيطة ومتكررة خلال هذه الحقبة، عن رجل رب أسرة من أم وطفلين وبيت خاو من كل مظاهر الحياة الحديثة التى باتت ضرورية، «لا ثلاجة ولا تلفاز ولا حتى بوتاجاز»، الأطفال يطلبون، والزوجة تلح، وصولا إلى قرار السفر، ثم سلسلة من إجراءات التنكيل والإذلال فى مهن وسبل حياة غير آدمية، لكن الفرق أن المسافر المصرى الذى انحشر مع عمال التراحيل فى أكشاك الصاج اللاسعة كان كاتبا للقصص القصيرة، ونشرت له مجلة صباح الخير قصة بعنوان «سرير واحد»، ومعه قصة أخرى بعنوان «المبعدون»، ورغم التوصيات الكثيرة التى جاء بها من مصر، وتصادفه مع كتاب مصريين مثل شاعر العامية محسن الخياط، أو صحفيين مثل عزيز المصرى لكن الفنان كان حظه «مهبب»، حيث «مفيش خرم إبرة لمصرى واحد» والجميع «على كف عفريت ». وهكذا لم يبق أمامه سوى تسليم نفسه للكفيل أو العودة إلى بلاده بينما لا يملك حتى أجرة الطائرة . كان يمكن للمشهد أن يقفل عند هذا الحد لولا تدخل ابن الكفيل ذى الميول الأدبية وإلحاق إدريس بالعمل فى إحدى دور السينما براتب معقول وسكن لائق، وفره له أحد الموظفين المصريين، إلى أن اصطدم هو وهذا الموظف بالفساد المالى لمدراء العمل الليبيين، الذين استمروا فى مطاردتهما وتهديدهما، ثم تعقد الأمر أكثر بوقوع الخلاف الذى وصل إلى حد الاشتباك العسكرى بين مصر وليبيا، ليصبح المصريون مطاردين من قبل كل الليبيين بمن فيهم الأطفال المسلحون بالحجارة والقاذورات، وتصبح أمنية الحصول على تنازل من قبل السلطة الليبية والترحيل أمنية كل من هو مصرى هناك كما هى الآن ... لكن هذه الحكاية الذاتية الممتزجة طرافتها بإيلامها كانت نافذة على كشف الكثير من الأوضاع الخربة لهذه الدولة كغياب القوانين وغرابتها فى حال وجودها، بما لذلك من أثر فى تخليق الفساد ممثلا فى استغلال النفوذ والتلاعب وتلفيق التهم بشكل مجانى، والتسلق وغيرها، يدعم كل تلك القرارات الطريفة والجائرة للعقيد وقواعده التى أملاها عليه شيطانه فى كتابه الأخضر الغريب وقاساها الشعب الليبى . اليوم وليبيا الشقيقة على وشك الانضمام لقائمة الشعوب العربية المتحررة من أنظمتها الانتهازية، والتى نتمنى أن تطول لتشمل كل البلاد العربية التى تستحق حياة أكثر كرامة، يكون هذا المقتطف من سيرة الأديب المصرى الفقير إدريس على والذى يتوزع بين النوبة وطرابلس، وثيقة استباقية تدعم حق المواطن الليبى فى حياة حقيقية، ويكون من المهم التنويه عن أن الكاتب الراحل كان يعتزم إصدار رواية أخرى بعنوان «طيرٌ هبط»، تتناول الفساد المؤسسى فى مصر، وكان يتوقع «أن تثير جدلا يفوق ما أثارته رواية «الزعيم يحلق شعره»، وأن والقدر الذى اختطف نصف نبوءة «عم إدريس» فى أن يواصل الكتابة والإبداع فى مناخ من الحرية والعدالة، منح لحفيده فرصة الاستمتاع بثمار الثورتين المصرية والليبية وكل انتفاضات الحرية . ومعروف أن إدريس على من مواليد النوبة فى 1940، وحالت ظروفه المعيشية من استكمال أى تعليم منتظم، لكن شغفه بالقراءة ضمه إلى مصاف الكتاب المهمين عبر العديد من المؤلفات المهمة، التى ترجم بعضها إلى لغات أجنبية، وأهمها روايات: «دنقلة»، «إنفجار جمجمة»، «مشاهد من قلب الجحيم»، اللعب فوق جبال النوبة، تحت خط الفقر، النوبى وغيرها، فضلا عن عدد من الجوائز منها: جائزة اتحاد الكُتاب، جائزة «جامعة اركانسوا» الأمريكية عن ترجمة روايته «دنقلة» إلى الإنجليزية فى 1997، وجائزة معرض الكتاب عن روايته «انفجار جمجمة ». وتوفى الكاتب الراحل فى 30 نوفمبر الماضى،إثر اصابته بأزمة قلبية حادة، عن عُمر يُناهز السبعين عاما، والثمانى روايات، ومحاولاتِ عديدة للانتحار بسبب ضغط الظروف المعيشية