قاوم المغنى الإسبانى خوسيه كاريراس المرض الذى سكن جسده عام 1988، حتى قهره وتغلب عليه، وبالفعل مات المرض، ولم يمت كاريراس. وظل صوته يمتعنا بعد أن تسرب اليأس إلى كل عشاق الغناء الأوبرالى من إمكانية عودته، لكنه عاد ليبث الحياة لقلب عشرات من دور الأوبرا العالمية. كاريراس قهر المرض لكنه لم يستطع أن يتغلب على الزمن الذى زحف بقوة نحو صوته، ليعلن للناس مساء الجمعة الماضى اعتزاله الغناء الأوبرالى. لأنه لم يعد قادرا على أداء متطلباته. والجميل فى قرار هذا الفنان الكبير أنه أعلنه، وهو مازال معشوق الجماهير فى وطنه إسبانيا، وكل من يعشق هذا الفن على مستوى العالم. كاريراس أراد بهذا القرار أن يترك الساحة وهو ما زال يحتفظ بهذا الحب لدى الناس، كان يستطيع الاستمرار لكنه كان سيفقد جزءا كبيرا من تاريخه الحافل. أخذ القرار بنفسه قبل أن يجبر على اتخاذه. لأن الغناء تحديدا غير كل الفنون الأخرى يتطلب أن يظل الصوت محتفظا بقدر كبير من لياقته الفنية، والصحية لأن الخطأ فى الغناء يفضح صاحبه، فى السينما قد يظل الممثل حتى ال90 من عمره يؤدى بشكل رائع من خلال تعبيرات الوجه على سبيل المثال. لكن فى الغناء الصوت هو كل شىء أى مشكلة فيه تظهر، فالجسد المرهق تحت أى صورة من صور الحياة لا يعطى غناء جيدا. وكم كبير من الأصوات سواء فى الغناء العربى أو الأوبرالى فقد مكانته بسبب هذا الاستهتار براحة الصوت، أو بعوامل أخرى مثل السن. وقرار الابتعاد أو الاعتزال عندما يتخذه الفنان فهذا أفضل له من أن يجد الصالة خاوية، أو يخرج منها من يسخر منه. وكلها أحداث حدثت بالفعل لنجوم كبيرة سواء فى مصر أو فى باقى أنحاء العالم. فى مصر هناك أسماء كثيرة أخذت قرار الابتعاد، وصممت عليه حتى تظل محتفظة بالصورة الجميلة التى عرفها الجمهور عنها. ليلى مراد، ومحمد قنديل، ونجاة، وشادية، وسعد عبدالوهاب، ومحمد عبدالوهاب الذى اعتزل الحفلات الغنائية، وهو مازال فى قمة توهجه الصوتى. ومن أوروبا دومينجو المغنى الأوبرالى الشهير الذى يغنى الآن الأعمال الخفيفة فقط، ويقود بعض الأوبرات الشهيرة، وقبله الراحل بافاروتى أعظم تينور ظهر فى عالم الغناء الأوبرالى. كل هذه الأسماء وغيرها حرصت على أن تظل الصورة الجميلة، هى الذكرى التى تترك للجماهير. كاريراس كان نموذجا للمغنى الأوبرالى العظيم. وجاء قراره ليعطى مدلولا على مدى أهمية اتخاذ القرار فى الوقت المناسب. وبطبيعة الحال سوف نستمع إليه قريبا فى شكل غنائى آخر أكثر بساطة من مثيله الأوبرالى. فإلى هذه اللحظة.