قراءة البرنامج الثقافى لحزب جماعة الإخوان المسلمين المزمع تأسيسه، تثير الحيرة، وتخلق الالتباس، وذلك لعدة أسباب. أولها عدم تعرضه للتنوير الوظيفة الأساسية والمهمة لأى ثقافة، فهى تعنى باستنارة العقول، فلا سلطان على العقل إلا العقل. ثانيها عدم تحديد موقفه من الليبرالية، أى الحرية. والمقصود هنا حرية المبدع فيما يبدع، لا الحرية السياسية، والتى من المفترض أن تخلق جوا ثقافيا يساعد المبدع فى الاستمتاع بإبداعه وخلقه، وتوصيله بجرأة إلى الجمهور. وثالثها أن البرنامج وضع عبارة فضفاضة هى «وضع ضوابط للحياة الثقافية»، دون أن يحدد هذه الضوابط. باحث متخصص فى التيار الإسلامى، قال إن هناك التباسا لمفهوم الليبرالية أو الحرية، إذ كيف يكون الحزب الإسلامى، وفى الوقت نفسه ليبراليا؟!. فى الجزء الأول، تعرضنا لتفاصيل البرنامج، الذى أكد أن الثقافة المصرية مرتبطة بالثقافة العربية والإسلامية، ولا تنفصل عنهما. وذكرنا أن البرنامج يقول صراحة: «إن خصائص الثقافة المصرية نجد أنَّها تتشكَّل فى الهوية الإسلامية والثقافة الإسلاميَّة المعبرة عن إرث هائل من الفنون والآداب، والتى شكلت فى مجملها الوجدان المصرى دونما تفريق بين أبناء الوطن الواحد، حيث امتدت تأثيرات الإسلام فى كل مفردات العمليَّة الثقافيَّة بحيث طبعت بسماتها المجتمع المصرى كله. وهنا علينا التأكيد على أن الحضارة الإسلامية مثلت وعاء جامعا للجماعة المصرية، ضم ميراثه الحضارى وأعرافه وتقاليده، فى إطار القيم الإسلامية، دون إلغاء لدور المسيحية، الذى مثل مرحلة من التاريخ المصرى، ودون تذويب لتمايزات ثقافة المسيحيين. فالبعض يتصور أن الانتماء للحضارة الإسلامية يلغى التاريخ المصرى السابق لها، كإرث حضارى إنسانى، أو يلغى دور المسيحية فى التاريخ المصرى أو يلغى تمايز الهوية المسيحية لدى المسيحيين فى مصر، وكأن هناك صراع بين الهويات أو المراحل التاريخية. ولكننا نرى أن الحضارة الإسلامية مثلت إطارا لوحدة الأمة، إطارا يجمع ويسمح بالتنوع، وإطارا أعاد تشكيل الميراث الحضارى للجماعة المصرية ولم يعاديه، فأقام مرحلة حضارية جديدة، وحقق وحدة الأمة العربية ووحدة الأمة الإسلامية، وحافظ على التنوع الداخلى وتعدد العقائد». وفى هذا الجزء الثانى، نستعرض آراء بعض المفكرين والكتّاب حول برنامج الإخوان الثقافى: الكاتب الكبير بهاء طاهر قال إن الفن والأدب لم يعرفا القيود الصارمة والقابلة للتأويل حسب المزاج وحسب التعصب إلا فى أشد عصور الانحطاط لأى مجتمع من المجتمعات، الإبداع والحرية صنوان. وقد علق بهاء، فى كتابه المهم «أبناء رفاعة»، على مقال محمد حبيب نائب المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين، المنشور بجريدة الشرق الأوسط تحت عنوان «حكم الإخوان غير وارد ولكن هكذا نتصور الحكم»، قائلا: وقد أشير على السيد حبيب بالرجوع إن أراد إلى الإنتاج الأدبى فى شتى عصور الحضارة الإسلامية، وأنا لا أشير هنا إلى من يعرفون بشعراء المجون مثل أبى نواس وبشار، بل أشير إلى أكثر الشعراء جدية وشهرة مثل أبى تمام والبحترى والمتنبى، وإلى أكثر الناثرين تقوى واحتراما مثل الجاحظ أو ابن حزم الأندلسى إمام المفسرين من أهل الظاهر». وأضاف بهاء فى جزأه عن «كيف وصلنا إلى الإخوان» والذى يجب قرأته كاملا، فلا يجوز تقطيعه واقتصاده فى هذه السطور : «ستشير دهشته يقصد الإخوانى محمد حبيب إن قرأ إبداعهم الأدبى هم أو غيرهم من أدباء المسلمين درجة الحرية فى تناول موضوعات الجنس والدين بما لا يجرؤ على مثله أى كاتب معاصر، ودون أن يحتج عليهم أحد فى عصرهم، كانوا يعرفون أن الضوابط الأخلاقية حسب الفهم المتزمت للأخلاق لا تحمى الفضيلة، وإنما تحمى الرذيلة، وتخلى بينها وبين النفوس، على قول الدكتور العميد طه حسين». وأكد بهاء أن القيد الوحيد المقبول على الإبداع، هو قيد القانون العام الذى ينطبق على المبدعين مثل غيرهم. وحاول بهاء تقديم الخلاصة بأن الإخوان حاولوا إقصاء المثقفين من أنصار الدولة المدنية وتهميشهم، حتى لا يكون لهم أى تأثير على الرأى العام. وهل التركيز على الجانب الحضارى فى الإسلام يكفى لتأسيس حياة ثقافية حديثة؟ أجاب الناقد الكبير الدكتور أحمد درويش: «إن الحضارة الإسلامية سمحت بظهور أبونواس شاعر الخمر، وكذلك ظهور قصائد تهجو المسلمين الأوائل، بل تهجو الرسول نفسه. كما أن الحضارة الإسلامية نقلت كل التراث الشعرى الجاهلى الوثنى، فضلا عن ترجمة كل التراث اليونانى الوثنى أيضا». وأضاف د. درويش أن كلمة «حضارة» ليس بينها وبين الحرية تضاد أو تنافر بالضرورة، والثابت التاريخى يؤكد أن الحضارة الإسلامية الدينية سمحت بالإبداع وساعدته، وخلقت مناخا ملائما له. وعن العبارة الفضفاضة «وضع ضوابط للحياة الثقافية» المذكورة ببرنامج الإخوان، قال د.درويش إن الضوابط شىء، والقيود شىء آخر، فأى إنتاج فنى ثقافى له ضوابط لطبيعة الفن ولطبيعة القوانين الحاكمة فى المجتمع، ولا يجب أن ننسى دخول عنصر مهم فى العملية الإبداعية، وهو عنصر المتلقى. وهنا يجب أن نطرح سؤالا للمبدع: إلى منْ تتوجه بإبداعك؟. وأشار د. درويش إلى أن الإجابة عن هذا السؤال تحدد ما هى ضوابط الحياة الثقافية. هذه الضوابط يتخوف منها المثقفون الذين يرون أن التفسيرات الدينية يمكن لها أن تعوق حركة الإبداع. وحول هذه النقطة، قال د. درويش إن الإبداع لا يعنى أن يقول الكاتب ما يخطر بباله دون ضوابط، مؤكدا أن هذه الضوابط لا تمنع ما يسمى بالتجديد، فلابد من وجود حركة ديناميكية حتى لا تتحول الضوابط إلى الجمود والثبات، مع مراعاة عنصر المتلقى فى المجتمع. ولفت د.درويش النظر إلى أن الخوف من التيارات الدينية زرعه الحزب الوطنى الذى كان يرى فى هذه التيارات منافسا له، قائلا: «يجب أن تقام مناقشة واعية بين المثقفين. وأن نستبعد كلمة الجماعة المحظورة، والتى لم تصبح محظورة الآن. وأن نجيب عن سؤال هل الوجدان الدينى ضد الإبداع؟». وختم د.درويش قوله: «الخطأ هو التعصب الذى ضد التغيير، والذى لا يعترف إلا بوجدان واحد لا غير». الدكتور جلال أمين، أكد أنه قرأ البرنامج منذ سنوات، ولا يتذكر تفاصيله الآن، ورفض التعليق موضحا: «إن هذا الموضوع عميق وحساس، ولابد من التعمق فيه، والتروى للإدلاء بالتعليقات». أحد المفكرين الكبار، لم يود ذكر اسمه، أكد أن برنامج الإخوان المسلمين غير ملتبس، وإنما يمثل أزمة هوية للجماعة، التى تريد تأسيس حزب سياسى، وهى جماعة دينية بالأساس، متسائلا: أن جماعة الإخوان تعتمد الدين فكيف تؤسس حزبا سياسيا، لا يجب تكبيله بمعتقدات دينية تبعده عن التطور العصرى، وتشل حركته فى عالم السياسة المتغير النسبى. وأضاف هذا المفكر أن البرنامج الثقافى للإخوان، لا يجوز أن نقرأه بعيدا عن تصريحات الإخوان، التى ترى أن «المادة الثانية من الدستور» مادة فوق الدستور وحاكمة، أى مادة إلهية حاكمية، موضحا أن حزب الإخوان لابد له أن يصطدم بفكرة الديمقراطية، التى تسعى إليها كل الأحزاب السياسية. وأبدى تخوفا شديدا من الدعوات الكثيرة إلى تأسيس أحزاب دينية، إخوانية وسلفية. أخيرا، رغم ما أكده الشاعر الإنجليزى الكبير ت. س. إليوت حول قوة ارتباط الثقافة بالدين، فإن المثقفين يخافون من أى تيار دينى، لأنه يحد من الحرية، ومن ثم الإبداع.