تطمئن بيانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصريين على أن مطالبهم المشروعة لن يتم الالتفاف عليها وأن الخطوات الأولى لبناء نظام ديمقراطى ومدنى حر تنفذ بمسئولية وبوعى. حسنا فعل المجلس الأعلى بحل البرلمان المزور بمجلسيه وبتعيين لجنة مستقلة للنظر فى تعديلات دستور 1971 بعد تعطيل العمل به. كذلك أجاد المجلس بالتحديد الأولى لمدة المرحلة الانتقالية الزمنية مع ترك هامش من المرونة الزمنية حملته صياغة «6 أشهر أو إلى حين إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية»، وبالتأكيد فى كل بياناته على القيم الديمقراطية الحاكمة للثورة المصرية. إلا أن الاطمئنان لفعل وبيانات المجلس الأعلى لا يعنى إبعاد النظر عن أمور أخرى تثير مخاوف وهواجس ولابد من ثم من الالتفات السريع لها. الأمر الأول هو استمرار غياب حوار منظم ومؤسسى يجمع إلى جانب المجلس الأعلى القوى الوطنية والحركات الشبابية والنقابات العمالية والمهنية والمجتمع المدنى وشخصيات وطنية مشهود لها بالنزاهة لكى يسهموا جميعا فى إدارة مهام المرحلة الانتقالية وتطوير الصياغات الملائمة للتعامل مع تحدياتها الكبرى التى لا ينبغى التعامل معها فقط بصيغة البيانات العسكرية ولا تقتصر بأى حال من الأحوال على تعديل الدستور وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية. ولإعطاء مثالين واضحين: 1 يحتاج المجلس الأعلى وبجانب عمل اللجنة الدستورية إلى مناقشة إصلاح الإطار القانونى الناظم لتأسيس الأحزاب والنظام الانتخابى والإشراف على الانتخابات وقوانين مباشرة الحقوق السياسية مع القوى الوطنية حزبية وغير حزبية. 2 سيكون من المفيد للمصلحة الوطنية وفى ما خص إجراءات مكافحة الفساد وتعقب الفاسدين من قمة هرم النظام السابق أن يصار إلى تشكيل لجان تحقيق تجمع بين تمثيل مؤسسات الدولة كمكتب النائب العام وتمثيل مؤسسات المجتمع المدنى المعنية برصد الفساد ومكافحته. فالدمج بين الأدوات الحكومية والخبرات غير الحكومية من شأنه أن يطمئن الرأى العام ويشرعن لعمل لجان التحقيق التى حتما لن تنتهى مهماتها سريعا. أما الأمر الثانى الذى يقلقنى فهو غياب التفكير المنظم فى الآليات والتدابير التفصيلية التى تحتاجها مصر لاجتياز المرحلة الانتقالية على نحو يسمح بالبناء الديمقراطى. لا ألمح إلى اليوم بدايات نقاش مفصل عن الآليات اللازمة لإصلاح مؤسسات الدولة التى خربها الحكم السلطوى الأمنى والفساد، والإشارة هنا إلى المؤسسات التعليمية والجامعات والإعلام الرسمى ومجالس النقابات المهنية والعمالية. فما نراه اليوم من محاولات داخل هذه المؤسسات من قبل بعض أعضائها لإزاحة الفاسدين وخدمة نظام مبارك لا ترقى جميعها إلى مستوى صناعة التغيير الديمقراطى داخلها، فمثل هذه الصناعة تحتاج إلى انتخابات مجالس مؤقتة بديلة لإدارة شئون المؤسسات المعنية وتكوين لجان تحقيق حكومية غير حكومية مع الفاسدين وليس فقط الاحتجاج والاعتصام والتظاهر. هناك أيضا مهمة إصلاح المؤسسة الأمنية لبناء أجهزة أمنية تحترم حقوق المواطنين وتعمل بصورة نزيهة وديمقراطية، وتلك أيضا مهمة شائكة للغاية لا تكفى بها المحاولات الفردية من وزير الداخلية الحالى أو نداءات القوات المسلحة للأجهزة الأمنية بالعودة إلى شعارهم الشرطة فى خدمة الشعب، بل تحتاج إلى شراكة من أطراف حكومية وأطراف غير حكومية (منظمات حقوق الإنسان) لإداراتها الفعالة. وهناك أمور أخرى تثير القلق سأتابع عرضها بالغد.