أصبح التقرير السنوى للمجلس القومى لحقوق الإنسان يمثل مرجعية مهمة عن أوضاع الحريات والحقوق المدنية فى مصر.. وفى التقرير الخامس الذى صدر منذ أيام قليلة، يؤكد المجلس أن مصر قد شهدت تقدما فى بعض ميادين حقوق الإنسان، كما شهدت تراجعا فى بعضها الآخر، فى الوقت الذى ينبه القائمون على إعداد التقرير فى المقدمة الشاملة على أن الأمر يقتضى تحقيق «توازن دقيق» بين الالتزام الدستورى والأخلاقى لتعزيز الحقوق والحريات وبين الضرورات التى تفرضها الاعتبارات الأمنية والوقائية التى يتطلبها استقرار المجتمع وأمنه القومى وحماية أفراده فى مواجهة الأخطار القادمة من الخارج وتلك التى تفرزها فى الداخل أزمات وتحديات سياسية واقتصادية وثقافية، وتبرز فلسفة التقرير رغم النقد الذى يواجهه من بعض الدوائر فى عبارات دالة، منها: «تظل الحرية دائما هى الأصل، وتظل القيود استثناء تمليه الضرورة، ويحكمه مبدأ أن الضرورة تقدر بقدرها ولا تجاوزه وأن سلطة تنظيم ممارسة الحقوق والحريات لا يجوز أن تتجاوز التنظيم لتصل إلى إهدار الحق ومصادرة أصل الحرية». ويمضى التقرير فى مكاشفة صريحة عما يثار ضده من انتقادات تخص علاقته بالسلطة ليضيف لبنة إيجابية جديدة لمصداقيته بالقول: «لأن تحقيق هذا التوازن شرط لا يستغنى عنه المجتمع لحفز الأفراد والجماعات على تفعيل انتمائهم الوطنى والتعبير عنه تعبيرا عمليا ينتهى بالمجتمع كله إلى التقدم والنمو.. لذلك فقد آل المجلس على نفسه أن يلتزم بالدقة والصراحة وتسمية الأشياء بأسمائها حتى تلقى توصياته وملاحظاته آذانا مصغية وقبولا حسنا من جانب كل من توجه إليهم هذه التوصيات والملاحظات.. وفى الوقت الذى يمارس التقرير السنوى لمجلس حقوق الإنسان قدرا من نقد الذات إلا أنه ينوه إلى أن وجود حالة من الضيق والغضب المرحلى من متاعب المرحلة الراهنة من الحياة السياسية والاقتصادية لا يجب أن يغفل العديد من الظواهر الإيجابية فى إطار ما يسميه التقرير «منهج الاعتدال والموضوعية» الذى يستوعب ممارسة النقد والنقد الذاتى، دون الإسهاب فى التفاؤل المسرف أو التشاؤم السلبى. وقد أصاب التقرير فى تحديد ظاهرة الانفلات السلوكى فى الشارع المصرى وما صاحبه من تزايد حالات التحرش الجنسى والفردى والجماعى على نحو غير مسبوق باعتبارها ظاهرة خطيرة وغير مألوفة فى تاريخنا القديم والحديث. وكذلك، رصد التقرير السنوى لأبعاد ظاهرة العولمة وتأثيرها على «السيادة القطرية»، مؤكدا أن سيادة الدول تتراجع جزئيا على نحو يحتاج معه الأمر إلى توافق دولى جديد قائم على الاتفاق على ضوابط ومعايير يتم الالتزام بها من جانب أطراف العلاقات الدولية لضمان قدر من الانضابط والوضوح يظل معه التراجع عن فكرة «السيادة الوطنية» مفهوما قانونيا تعامل به الدول الصغيرة والنامية معاملة الدول القوية والغنية والأكثر تأثيرا على الساحة الدولية. وينطلق التقرير من هذا التأسيس إلى استخلاصات مهمة فى هذا الخصوص، حيث يقول: من هنا لم يعد جائزا أن يواجه كل نقد موجه لحالة حقوق الإنسان فى مصر من منظمات دولية أو إقليمية معنية بحماية تلك الحقوق برفع «راية السيادة الوطنية المطلقة»، ورفض مناقشة ما يوجه من نقد.. إن هذه المواجهة لم تعد منتجة بعدما طرأ على النظام الدولى من تغيير، وأصبح معه التعاون الدولى الفعال لمواجهة الأفكار المشتركة بين جميع الدول والمجتمعات جزءا جديدا من أجزاء هذا النظام الدولى ولأنه جزء جديد فإنه يحتاج إلى معايير وضوابط تتضمن بقاءه محكوما بمظلة قواعد المساواة والتكافؤ والمعاملة بالمثل بين جميع أطرافه، وإلا تحول إلى أداة للظلم والهيمنة.. وهو ما ترفضه مصر وتحرص على التنبيه إليه». ويؤكد التقرير السنوى مجددا على وجود قيود تشريعية وإجراءات تنظيمية تحد من اتساع نشاط المجتمع الأهلى وبروز دوره، وتعرقل عمل الجمعيات الأهلية والنقابات المهنية رغم أن العصر الحالى يعتبر المجتمع المدنى «ضلعا ثالثا» ومهما فى عملية التنمية السياسية والاجتماعية جنبا إلى جنب مع الحكومة والقطاع الخاص. ويمضى التقرير فى نقد صريح للتضييق الأمنى على «المدونين» على شبكة الإنترنت. ولم يفت المجلس أن ينوه إلى أن 70٪ من الشكاوى التى تصل إليه من المواطنين تتعلق ب«المعاناة الاقتصادية والاجتماعية» فى الشارع المصرى، فى الوقت الذى لا تتجاوز نسبة شكاوى مخالفات حقوق الإنسان المدنية والسياسية 9.1٪، ويفسر مجلس حقوق الإنسان هذه الظاهرة بأن وضع حقوق الإنسان فى المجتمع المصرى «معقدا» وأن الهموم المعيشية المتلاحقة هى «هاجس حقيقى» لا تقل وطأتها عن مخالفات الحقوق المدنية والسياسية. وطالما أن التقرير يسمى الأشياء بمسمياتها فهو يتحدث عما تمثله حادثة طرد أسر بهائية فى صعيد مصر من ديارهم وحرقها وخروجهم من قريتهم فى حراسة الأمن، ويقول: إن ذلك يجسد «تنامى» نزعات التعصب ورفض الآخر وضرب مبدأ المواطنة فى الصميم الذى كفله الدستور ويحميه القانون. ويتخذ التقرير موقفا واضحا من الأبعاد السياسة للحقوق الأساسية، فيقول: إن «غلبة الهاجس الأمنى على الجانب الحقوقى تسهم فى عرقلة جهود الإصلاح السياسى، وهو ما حال دون إلغاء حالة الطوارئ، وتزايد ضحايا التعذيب وسوء المعاملة والتعسف فى استخدام السلطة على نحو غير مسبوق أفضى إلى اضطرابات وتظاهرات احتجاجية»، وفى هذا السياق، يبدو جليا أن الخبراء والأسماء البارزة فى مجلس حقوق الإنسان ينحون فى نقدهم للأوضاع الراهنة على المستوى السياسى منحا مخالفا لما يراه المقربون من السلطة السياسية من حيث ضرورة بقاء الطوارئ لمواجهة التحديات الأمنية الحالية بل إن التقرير يؤكد أن «الهاجس الأمنى» هو أصل كل التجاوزات الحالية ضد الحريات المدنية وهو الذى يحكم طابع تفاعل الأجهزة الأمنية مع الحق فى التجمع السلمى مثلما حدث فى مدينة المحلة فى العام الماضى. لكن التقرير السنوى يلمح باستمرار تحليق الحريات الإعلامية فى مستويات عالية عبر الصحف المستقلة والحزبية والبرامج الحوارية فى الفضائيات رغم عدم تنفيذ وعد رئيس الجمهورية بإلغاء العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر. وفى صورة متكاملة لتقرير العام الحالى، ينتقد المجلس استشراء حالة الفساد وارتفاع أسعار السلع الضرورية وعدم تناسب انخفاض أسعار الغذاء مع الانخفاض الذى تحقق فى السوق العالمية ورفع أسعار الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء. كما يوجه مجلس حقوق الإنسان الانتباه إلى خطر ارتفاع معدلات البطالة على نحو مستمر، رغم ما يظهر من انخفاض فى الاحصاءات الرسمية، وهو ما يشكل رؤية شاملة تحتاج إلى تدعيم واستمرارية فى التقارير القادمة.