هلّتْ ثورة ُ 25 يناير(2011)، على خُطى ثورة تونس الظافرة، لتُعزّز المطلب الحيوى للشعوب العربية قاطبة فى التحرر من ربقْة الذلّ وسطوة الاستبداد، على امتداد عقود مليئة بالهزائم والتقهقُر. ما يميز ثورة شباب مصر، هو أنها تمتد فى زمن الإنجاز وتستقطب الملايين، وتُمسرح الفعل المُغيّر وهى تحاكم النظام المُتهاوى ،وتؤكد أن القطيعة ضرورية مع مَنْ سرقوا ثقة الشعب وخيراته وآماله مُحوّلين البلاد إلى مزرعة خاصة يستغلونها ويُورّثونها لسلالتهم الطاغية. هى إذا ثورة تربط الحاضر بذلك الوجه المشرق فى الماضى القريب، يومَ هبّتْ جموع الشعب سنة 1919، لتحقيق الاستقلال والتخلص من الاستعمار البريطانى.. ثورة تربط الحاضر بالمنطق الصحيح الذى يرفض الانقلابات والثورات الفوْقية، ويُصرّ على أن يختار الشعبُ طريقا ديمقراطيا يُنظم الصراع، ويُوجه الطاقات نحو إبداع المستقبل. كأنّ حناجر شباب ميدان التحرير وكل ميادين مصر ،يُردد تلك الأغنية الرمز التى كتبها طالب مُعتقل فى سجن القلعة سنة 1919 قائلا: «إحنا التلامذة يا عمّ حمزة، واخدين على العيش الحاف...»، والتى سيستوحيها الشاعر أحمد نجم والشيخ إمام ليصدحا مع الثائرين فى السبعينات: «رجعوا التلامذة يا عمّ حمزة للجدّ تانى ...». عاد شعب مصر إلى الجِدّ ليصحح مواطن الخلل التى سمحتْ لمَنْ سرقوا تضحياته وآماله أن يفرضوا سلطة الحديد والنار، وأن يفرّطوا فى مصالحه ودوره العربى الرائد. أكثر من نصف قرن ومصر تعانى من استبداد الحاكمين والناهبين والمستسلمين لإرادة المانحين ولمُحتلّى فلسطين...كانوا يتصرفون وكأن ملايين من المصريين هم مأجورون فى ضيعة أسياد لا يقبلون مراقبة أو محاسبة. لم يسكت الشعب على الظلم الفادح فأدى ثمنا غاليا من حياة أبنائه، وظلّ يحارب بالأسلحة المتاحة: الجهر بالنقد، والكلمة الكاشفة، والنكتة اللاذعة. لكن المستبدين لم يُبالوا بصوت الشعب وظلوا يُبشرون بالانفتاح والليبرالية المتوحشة ،مُمعنين فى التحالفات المخزية مع رجال الأعمال المتسلقين، والوالغين فى المُضاربات العقارية والشركات المتعددة الجنسية. منذ سنوات عديدة وأهل مصر يدركون أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر وأن شروط تنْفيض ِالدولة والمجتمع قد توافرتْ،وحانَ وقتُ تدْشين سِفْر الديمقراطية للاستهداء به على طريق استعادة سيادة الشعب. وللحقيقة أقول بأن الإبداع الأدبى للكُتاب الشباب فى مصر قد نبّهنى، منذ عقْديْن على الأقل، إلى أن الانفجار آتٍ وإلى أن الأصباغ والتزاويق التى كان نظام حسنى مبارك يدفقُها على الواجهة إنما تُخفى وراءها واقعا معتما، ويأسا أسود يوشك أن يعلن عن نفسه. صحيح أن الأوضاع الثورية تتضافر فى صنعها، قبل كل شىء، عوامل مادية وسياسية واجتماعية، لكن التعبير الأدبى والفنى يُسهم أيضا فى بلورة الوعى وإنْضاج لغة الرفض والاحتجاج. وهذا ما عاينتُه منذ تسعينيات القرن الماضى من خلال متابعتى للرواية الجديدة المصرية التى تُجسد عبْر تمثيل فنى متميز، انفصامَ العلائق بين المجتمع المدنى والدولة، وترسم مشاهد نافذة للتهميش والبطالة والانحشار فى الأحياء العشوائية. فضلا عن ذلك، عبرت كثير من تلك الروايات عن العنف المُستَتِر والظاهر الذى يعتمده النظام لحماية مؤسساته المزيفة، وتغلغلت فى أحشاء التجمعات السكنية المزنوقة على أطراف القاهرة العملاقة لتُسجل «اللغات» النابتة فى أحضان البؤس والعنف والبلطجة والتى تضع موضع تساؤل كل المقدسات والمحرمات، لأن الأخلاق لا يمكن أن توجد، كما قال أحد فلاسفة اليونان، من دون حدّ أدنى من المادة ... كل ذلك، أسعْفَ الشباب المصريين الذين نزلوا إلى الشارع على أن يُضيئوا شعلة الثورة والعصيان الكامنة لدى الشعب، وأن يبتدعوا طرائق ذكية تتحدى الاستبداد وأجهزة القمع. وسرعان ما وضعوا أيديهم على العتبة السالكة نحو التغيير حين نادوا بإسقاط رأس النظام، والتخلص من عبء الأوصياء المُحتكرين للسلطة باسم الوطنية والبلاغة الكاذبة الجوفاء. أدرك شباب مصر أن التغيير الجذرى ينطوى على مخاطر ويستلزم تضحيات، ولكنهم أدركوا فى الآن نفسه أن الأمر الاستعجالى والشرط الأوّلى لإنجاح الثورة، هو القيام بقطيعة مع المسئولين عن التدهور وسدّ الأبواب أمام الشعب. وهذا هو ما يفسر تشبّثهم برحيل الرئيس الذى أخذ يتحايل ويتباكى ليُمدّد أجَلَ حُكمه الفاشل، ولكن هيهات لأن الشعب المصرى أدرك بالمُعاناة سبب بلائه ومأساته. ليس ما هو مطروح الآن وقد حققت الثورة هدفها الأول بإجبار الرئيس على التنحى، أن تقدم تفاصيل تحدد مجتمع ما بعد الثورة، وإنما الأهمّ الحفاظ على التعبئة وتحالف الشعب مع قُوّى الشباب لتكسير دواليب الاستبداد وأعداء الديمقراطية والتغيير. ما يكتسى صبغة الاستعجال هو حماية قدرة الشعب على مراقبة الخطوات التالية لكى لا ينحرف المسار، ولكى يتمّ التحضير للحوار الصريح، ووضْع أسس الانتقال إلى ديمقراطية منفتحة على المستقبل، مستندة على الشباب الذى فجّر الثورة وعلى سواعد العمال والفلاحين الذين عانوا من الاستغلال والقهر. لا خُضوع بعد اليوم لأنظمة متسلطة تحتقر المواطنين وتتكئ على الرقابة البوليسية: هذا ما تقوله ثورة الشباب فى مصر، وهو ما قالتْهُ ثورة شعب تونس بالأمس القريب، وهو ما يُخالج صدور جميع الناس على امتداد الأوطان العربية. شرط ُ نجاح هذه الثورة، كما نشاهد، هو القطيعة مع مَنْ أرادوا لشعوبنا أن تظلّ خارج التاريخ تتلهّى بالتفرُّج على منْ يصنعونه. لذلك فإن ملحمة الثورة التى تُدشنها تونس ومصر هى كلمة البدء، كلمة التّكوين فى سِفْر الديمقراطية والعدالة والمساواة. لا أحد منّا، بعد الآن، سيقبَل أن تُعصبَ عيناه. كلنا نرى ونسمع ونعانق طريق الفعل الذى يُعيد لشعوبنا التكافل والتساند والكرامة. وشِعارُنا لا يقبل التجزىء: مواطن حرّ ومسئول داخل مجتمع يرعى الحقوق ودولة تقوم شرعيتُها على تداوُل الحكم وضمان حرية الرأى والاعتقاد والتفاعل مع المجتمع المدنيّ... لنْ نُصغى للذين يحُكُّون إستَهُم وهمْ يُشكّكون فى صدقية ثورتنا، أولئك المثقفون الغربيون الذين يُطلّون من شرفاتهم الهرِمة ليقولوا أو يكتبوا فى صحفهم بأن « الشعوب العربية مُتأخرة بالفِطْرة والوراثة « !!! لا وصاية بعد اليوم، لأن الشعوب العربية قررت أن تهدم جُدرانَ الاستبداد وحاجبات الضّوْء.. اختارت أن ترتاد أصقاع التاريخ المتحرك، وتعانق الحداثة المُجددة، وتبتدع لغة تفتح مجاهيل العصر . هديرُ حناجر الرجال والنساء والعمال والمثقفين فى تونس ومصر، ترتجُّ فى أعماق كل عربى لتُنبّهه إلى أن مسالك الأمل هى قابَ قوْسيْن، وأن ساعة التغيير قد دقتْ، وأنْ لا أحد يستطيع، هذه المرة، أن يتخلى عن موعده مع التاريخ الحامل للمسرّات. تستعيد الشعوب العربية، من خلال انتفاضة تونس ومصر الأمل فى تحقيق انطلاقة جديدة، تأخذ فى الاعتبار التعثرات والانتكاسات والأخطاء التى ضيعت فرص الحوار والتعايش والتقدم على مختلف الإثنيات المُكوّنة لنسيج تاريخنا . ومن ثمّ، تقدم تجربتا تونس ومصر فرصة نادرة للمراهنة على الديمقراطية بوصفها وسيلة لتنظيم الحوار والصراع البنّاء، والإقرار بالتعدد الثقافى الخلاّق، وفكّ الحصار عن الفعل والإبداع، واستعادة حرية المواطنين، وإلزام دولة القانون بالسهر على تنفيذ ما اختاره الشعب. هذا هو أفق الرهان الجوهريّ الذى تطرحه ثورتا تونس ومصر، وهو رهان يفتح البوّابة الضرورية من أجل أن نُعاود الانخراط بجدّية فى مجرى التاريخ، مُستهدفين تحقيق النهضة المُنفتحة التى طالما أجْهَضتْها ،فى ربوعنا، قوى الاحتلال والاستغلال والفكر الماضوى الآفل. تلك هى تونس ومصر اللتان فى خاطرنا : تثوران ِ استجابة لمطامح شعبيهما وأيضا لتفتحان الطريق أمام الشعوب العربية السائرة، لا محالة، نحو التخلص من الاستبداد والحكم الفردى.