ليست هذه الكلمة اسهاماً في أي من المعارك المحتدمة بشدة الآن في الدفاع عن الثورة أو تقديم النصح للثوار فيما يجب أن يفعلوا. و لكن سأبدأ بتحديد موقفي - و تحديد المواقف بوضوح الآن له أهمية حرجة: أنا مع هذه الثورة، السلمية المصرية الشابة المستقلة، قلباً و قالباً. و لا أعتقد أن أحداً من خارجها يمتلك أخلاقياً حق المزايدة عليها و على شبابها، أو حتى يمتلك عملياً قدرة إسداء النصح المفيد لوسائلها، فيما يعيد الثوار يوماً بعد يوم رسم حدود الممكن. كلامي موجه للنخبة الأدبية و السياسية الشريفة، و هو كلام أقوله على هامش الثورة في حوار له مع أون تي في، اعرب د. اسامة الغزالي حرب عن دهشته من الزج بإسمه فيما يدعى بلجنة الحكماء و قال في ترفع: الثورة تحتاج إلى ثوار لا حكماء و أنا مع الثوار. هذه العبارة الجميلة تحوي خللاً فكرياً خطيراً، كقولنا أن الحوار الجيد يحتاج إلى متحاورين لا إلى موضوع. أنا أفهم موقف د. حرب. لقد أخجلت الثورة نخبنا المتقاعسة - ربما على الأقل منذ بداية حكم مبارك - عن إثراء حياتنا الفكرية و النقدية بشكل جاد؛ و هو تقاعس أرجو أن يكون مصدراً عن تكاسل أو يأس لا عن إفلاس حقيقي في الأفكار و القدرة الحوارية. نحن الآن في لحظة تاريخية جديدة بامتياز: لقد قام الثوار بحركة تحرير حقيقية، و أعني تحرير ساحة النقاش العام في مصر. و إذا لم تقم النخبة - من منابرها في وسائل الإعلام - من الآن بتعمير هذه الساحة تكون قد تقاعست للمرة الثانية، تقاعساً يدنو من الخيانة، و يعرض هذه اللحظة التاريخية الحبلى - أياً كانت المكاسب الثورية الفورية - للإجهاض أو لولادة مبتسرة أقول لا انتظر من النخبة الوطنية الآن مجرد الثناء الخاشع على روعة الثوار أو منافستهم في المطالبة بسقوط النظام أو الدفع بالشباب الثائر - في لفتة تواضع غير سديد - في قلب لعبة تفاوض سياسية خلف أبواب مغلقة و وسط لاعبين محترفين. مطلوب من النخبة الوطنية دوراً هم أقدر عليه من غيرهم: الحديث بعمق و جرأة و ذكاء عن معالم العصر السياسي الجديد، و ترسيم أجندة النقاش الحزبي في مصر في المرحلة القادمة. فبينما لا يمكن لأحد التكهن بما ستسفر عنه الأيام القادمة من مكاسب ثورية فإنه يمكن القطع بأن هذه المكاسب أياً كانت لن تكرس تحول ديمقراطي حقيقي إلا إذا التزمت النخبة بأن يصبح هذا الحديث - حديث أسس التحول الديمقراطي الجاد - حاضراً بقوة في النقاش العام لا أن ينتهي مع إنتهاء اللحظة الحالية، كيفما انتهت اهتم تحديداً بثلاث مواضيع أجد تأسيسها جوهرياً لوطن ديمقراطي: كيف يمكن تفعيل سيادة القانون ؛ كيف يمكن إعادة الدماء لحياة نيابية جادة في مصر ؛ ثم كيف يمكن إرساء نظام رقابي صارم على السلطة التنفيذية. عندما اطالب بالنقاش حول هذه النقاط فأنا لا أعني - وفق فهم يبدو دارجاً للأسف - تقديم "منولوجات" حزبية أو السعي حثيثاً للوصول إلى "مانيفستو" يضم كل عناصر العمل السياسي على إجماع واحد. انما أعني ببساطة نقاش: طرح للأفكار و تراشق بالمبادئ و الحجج و الأرقام، من قبل مفكرين مستقلين و حزبيين. نقاش يستحيل - لو كان نقاشاً جاداً - أن يصل إلى إجماع، ولكن من شأنه أن يثري اللحظة التي يؤخذ فيها القرار: اللحظة التي يقدم فيها المواطن على الإنتخاب أو يقدم فيها وزير على وضع سياسة سأعطي مثالاً - اعتقده الأهم - على ما أعني. يبدو النقاش حول عودة الروح للحياة النيابية في مصر محصوراً في نقطة ضمان إنتخابات حرة نزيهة، و هي نقطة على أهميتها الواضحة، يعد الوقوف عندها إختزالاً في منتهى الخطورة. المجلس النيابي هو قلب العملية السياسية في البلد، و هو الأساس - إن لم يكن الوحيد فالأهم - لإحساس المواطن بملكية الوطن. لابد أن تقابل النخبة الوطنية فوراً تحدي ملء فراغ النقاش الحزبي، و ليس هذا من قبيل الترف. ففي ظل غياب مزري لأي نقاش حزبي جاد حول أهداف السياسة العامة نجد ساحة سياسية فقيرة للغاية، تحتوي في جانب منها على أفراد يملكون من الغنى و السطوة ما يضمن لهم قوة إنتخابية عتيدة، و على الجانب الأخر جماعة سياسية ترى أن الإنتماء الديني أهم قانونياً من الإنتماء للوطن. أسارع هنا بتوضيح أخر لموقفي: لست أبداً مع الدعوة الساذجة - و المستفزة - ل "إرجاء" الديمقراطية حتى يزداد وعينا السياسي، و انما أطالب النخب الحزبية و المستقلة بالبدء بلا تأخير في حديث المبادئ و السياسات. و أوضح أيضاً انني لا أخشى في الحقيقة جماعة الإخوان الطائفية بقدر ما أخشى إعادة إنتاج وضع سياسي عقيم. لابد أن نذكر هنا أن الحزب الوطني لم يكن حزباً بالمعنى السياسي للكلمة و انما كان تجمعاً لمراكز قوى مالية لا يوجد ما يمنع من احتفاظها بميزاتها النيابية في ظل فراغ سياسي حزبي. لم اتحدث عن أهمية النقاش حول تحديد الدوائر الإنتخابية، مزايا و عيوب الإنتخاب الفردي و الإنتخاب بالقائمة، إلخ. قس إذاً على هذا ضرورة الحوار بكثير من العمق و الجرأة حول تفعيل سيادة القانون و حول العناصر الضرورية لنظام رقابي صارم على السلطة التنفيذية. في هذه المواضيع نقاط كثيرة للبس و الخلاف و لا يمكن أبداً الارتكان في كسل إلى وهم أنها مواضيع بسيطة أو لا خلافية قرأت لبلال فضل البارحة مقالاً كتبه في ..... يصور فيه - بسخرية تخفي ما أقطع إنه أسى حقيقي - هذه اللحظة التاريخية و هي تنزلق في نظر بعض ممن يتابعونها من خارج الميدان إلى عرض مسلي، على هامش حياة يومية طبيعية بما يكفي، بين القائلين بالرحيل و القائلين بالبقاء. لا يجب أن نسمح بهذا. الثورة ما تزال مشتعلة في الميدان حول الوطن. النظام مدين للثوار باحترام فشل حتى الآن في ابدائه بشكل لائق - و أرجو أن يدفع ثمن هذا الفشل الأخير بالسقوط. الأهم أن النخبة الوطنية مدينة أيضاً للثوار، بالشروع بأسرع ما يمكن في إنشاء نقاش سياسي جاد طال تأخره، و لن يقوم مستقبل ديمقراطي بدونه