فى أوائل يوليو 2002، ذهبت لرؤية كوندوليزا رايس، مستشارة الرئيس جورج دبليو بوش للأمن القومى، فى مكتبها بالجناح الغربى. كنت ألتقيها بوصفى مدير تخطيط السياسات فى مركز الأبحاث الداخلى بوزارة الخارجية. لكن صداقتنا تعود إلى زمن بعيد، عندما كنا نعمل معا مع الرئيس بوش الأب لأكثر من عقد، ولم تكن لقاءاتنا جزءا من أية عملية رسمية بين وكالات الحكومة. وكالعادة، أعددت، فى دفتر أصفر الأوراق قائمة تضم حوالى خمس من المسائل التى أود مناقشتها أثناء اجتماع كان يستغرق عادة حوالى 30 دقيقة. وكان العراق على رأس قائمتى. ولعدة أسابيع، كان المسئولون عن العراق وغيره من قضايا الشرق الأوسط فى الفريق الذى يعمل معى يرددون أنهم يشعرون بتغيير فى اللهجة داخل الحكومة. وكان نظراؤهم فى البنتاجون، ومجلس الأمن القومى، ومكتب نائب الرئيس الذين كانوا يفضلون شن الحرب على العراق يرسلون الإشارات بأن هذه الأشياء ماضية فى طريقها. ولم أشاركهم هذا الحماس لدخول الحرب، لاعتقادى بأن أمامنا خيارات أخرى متاحة وخوفا من أن أى صراع سيكون أشد ضراوة مما يتوقع المؤيدون له. كما كنت أخشى أن يكون لأى غزو عواقبه الوخيمة على بقية جوانب السياسة الخارجية الأمريكية فى لحظة محددة من التاريخ تتمتع فيها أمريكا بفرصة نادرة لممارسة نفوذ غير عادى. وبدأت اجتماعى مع كوندى بملاحظة أن الإدارة تبدو وكأنها تعد العدة لخوض حرب مع العراق وكانت لدى شكوك جادة بشأن عمل كهذا. وذكَّرتها بأننى على معرفة ببعض جوانب المسألة نظرا لدورى فى إدارة بوش السابقة، حيث عملت كبير مستشارى الرئيس لشئون الشرق الأوسط فى مجلس الأمن القومى. وسألتها سؤالا مباشرا، «هل أنت متأكدة حقا من أنك تودين أن يكون العراق محور السياسة الخارجية للإدارة؟». وكنت على وشك المتابعة وطرح أسئلة أخرى عندما قاطعتنى كوندى. «وفِّر كلامك، يا ريتشارد. الرئيس اتخذ قراره بشأن العراق بالفعل». وأوضحت الطريقة التى تحدثت بها أنه قرر دخول الحرب. أصابنى الذهول. لكنى، لم أناقش الأمر حينها. وكما كان يحدث فى مناقشات سابقة، عندما كنت أعبر عن آرائى بشأن العراق، كان واضحا من ردها أن المزيد من النقاش حول هذه النقطة سيكون مضيعة للوقت. فمن المهم دائما أن تختار الوقت المناسب لتقديم حجة غير مرحَّب بها، ولم يكن يبدو أن تلك لحظة تبشر بالخير. كما أننى حسبت أن الفرصة ستتاح مرة أخرى لإثبات صحة موقفى، إن لم يكن مع رايس، فمع آخرين فى وضع يُحدِث فرقا. وعندما كنت أتناول العشاء مؤخرا مع اثنين من أصدقائى المقربين، قلت أننى كنت ضد الحرب بنسبة 60:40. ولم تكن معارضتى أقوى بسبب افتراضى (المستمد من الاستخبارات المتاحة) أن العراق يمتلك أسلحة بيولوجية وكيماوية. كما أننى كنت أعتقد أننا إذا دخلنا الحرب فسيكون علينا مباشرتها على نحو يعيد إلى الأذهان الطريقة التى خضنا بها الحرب السابقة على العراق أى بعد توفير دعم دولى وداخلى كبير وفقط بعد حشد عدد كاف من القوات ووضع خطط مقنعة. ولو كنت أعرف ما أعرفه الآن، وتحديدا أنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل وأن الغزو سيتم فى ظل الغياب الواضح للتخطيط والكفاءة، لعارضت بحزم. لست أول مسئول أمريكى يختلف مع رؤسائه، ولن أكون الأخير. فهذا البلد وُلد من المعارضة (الحرب الثورية) وهى التى حددته (الحرب الأهلية) وغيرته بعمق. وكانت حركات العمال وحق الاقتراع والحقوق المدنية، وكذلك المظاهرات المناهضة لحرب فيتنام، جميعها تجارب تحولية أمريكية. وقد رحب قادتنا بالمعارضة باعتبارها نبيلة وضرورية. ولم يقل أحد غير الرئيس دوايت أيزنهاور إنه ينبغى على الأمريكيين «ألا يخلطوا بين المعارضة المخلصة والتدمير غير المخلص». لكن المعارضة صعبة، وتمثل معضلة حقيقية للشخص الذى لا يوافق. فأنت من ناحية مدين لضميرك ولرؤسائك بأن تقول لهم ما يجب أن يسمعوه وليس ما يريدون سماعه. والواقع أن قول الحقيقة للسلطة شكل من أشكال الإخلاص. وهو أفضل شىء وفى بعض الأحيان الطريقة الوحيدة للتأكد من أن الحكومة (أو أية منظمة) تعمل بما يتوافق مع قدرتها. وبغض النظر عن مدى صحة هذه النصيحة، ستكون هناك أوقات تُزدرى فيها أو تُرفض. وهى قد تُرفَض على أساس الفضائل، أو بسبب السياسة أو الشخصيات. وأحيانا لا يعدو الأمر كون الأشخاص الأذكياء يرون الأشياء على نحو مختلف. ما الذى يجب أن تفعله عندما يتجاهلونك أو يرفضونك؟ أحد الخيارات هو الاستمرار فى تحدى الحكمة أو الأفضلية السائدة. وأنت بالطبع تخاطر باستبعادك أو تجاهلك. فهناك شىء مشترك بين وضع السياسات فى الحكومة أو أية منظمة وبين كرة القدم. ذلك أن النشاط يتركز بالقرب من خط المرمى. وليست هناك أهمية كبيرة لوضع نفسك فى المنطقة البعيدة إذا كنت ترغب فى أن تكون فاعلا. وينطبق الشىء نفسه إلى حد كبير على السياسة. كنت أرى أن هذه المعضلة يمكن أن تكون أى شىء غير كونها تجريدا. ويُقال إن قرار مهاجمة العراق كان قرارا محدِّدا لفترة رئاسة جورج بوش. وقد رأيت حينذاك وأرى الآن أن تلك كانت حرب اختيار. وكنت أرى أنه اختيار خاطئ. الخيار الذى لم أكن أرى أنه خيار هو تقويض السياسة. وليست هذه معارضة، بل عدم إخلاص. وكان الخيار الثانى هو مواصلة معارضة الحرب بعد اتخاذ القرار تقريبا. وقد فعلت ذلك ولكن ليس بالقدر الكبير. ومع أنه من المحتمل أن ذلك جعلنى أنا وغيرى من المتشككين نشعر أنه من الأفضل أن نفعل المزيد، فقد كان ذلك سيقلل أى أثر يحتمل أن يكون لنا على التخطيط للحرب وما بعدها. فهناك أوقات تضطر فيها لترك الأمور تسير وتمضى قدما، وكان ذلك الوقت واحدا منها. وفى هذه الحالة كان المضى قدما يعنى التركيز على إشراك الكونجرس والأمم المتحدة فى اتخاذ القرار والتخطيط للحرب. وقد حسبت أنه مازال بإمكانى التأثير على الجوانب المهمة للسياسة، إن لم يكن على جوهرها. هناك أيضا خيار الاستقالة. فالرحيل بطرق عديدة هو الشكل الأكثر دراماتيكية للمعارضة. وبخلاف الأسباب الشخصية (الصحة والوضع المالى والأسرة) هناك سببان للاستقالة يحتمل أن يكونا صحيحين ويتصلان بالسياسة. أحد أسباب الاستقالة هو أنك تختلف اختلافا أساسيّا حول مسألة مهمة. وقد استقال أشخاص عديدون من لجنة الأمن القومى بسبب قرار إدارة نيكسون فى مايو1970 الخاص بمد حرب فيتنام إلى كمبوديا. واستقال وزير الخارجية سيروس فانس في1980 بسبب قرار الرئيس جيمى كارتر استخدام القوة فى محاولة لتحرير الرهائن الأمريكيين المحتجزين فى إيران. واستقال العديد من صغار ضباط الاستخبارات الخارجية بسبب غياب الرد الأمريكى القوى على الوحشية الصربية فى البوسنة فى تسعينيات القرن العشرين. ومن الواضح أن العراق كان يشكل قضية أساسية، ورغم اختلافى مع قوة دفع السياسة الأمريكية، فأنا لم أستقل. وكان منطقى واضحا: كما قلت من قبل، فقد كنت ضد قرار الحرب بنسبة 60:40، ولو علمت أن العراق لم يعد يمتلك أسلحة دمار شامل لكنت ضدها بنسبة 90:10، وكنت سأترك الرئيس بوش يمضى بالطريقة نفسها. ولكن ذلك لم يكن الموقف كما فهمته. رحلت فى الوقت المناسب. من ناحية بسبب جاذبية أن أصبح رئيس مجلس العلاقات الخارجية، حيث يُقال إن هذه هى المنظمة المستقلة الرائدة فى البلاد المخصصة لدراسة السياسة الخارجية. ولكنى كنت مستعدا للرحيل. ففى ذلك الوقت كانت المجادلات التى أخسرها مع زملائى أكثر من تلك التى أكسبها، ليس بشأن العراق فحسب، بل بشأن أفغانستانوإيران وكوريا الشمالية والتغير المناخى والصراع العربى الإسرائيلى والمحكمة الجنائية الدولية. لقد كنت شخصا يفضل الدبلوماسية والجهود الجماعية. وكانت الإدارة فى أفضل الحالات تشك فى تلك المقاربات وغالبا ما كانت تعارضها بشكل مطلق. أضف إلى الإحباط حقيقة أنه كثيرا ما كان يُستعان بى للدفاع عن سياسات كنت أعارضها. وقد وصف كورديل هال وزير الخارجية فى إدارة فرانكلين روزفلت نفسه لأحد الأصدقاء بأنه «مل أن يُعتمد عليه فى العلن ويتم تجاهله فى السر». لقد أكدت كل شىء بشكل جيد جدّا. وفى مناسبات كثيرة كان علىَّ أن أعرض على غير المطلعين بالتحديد الحجج التى عارضتها داخل الحكومة. وكون ذلك يحدث أحيانا أمر حتمى وجزء مما يجب على أى محترف توقع التعامل معه. ولكن حين يصبح ذلك هو المعيار، يحين الوقت لبحث ما إذا كان ما تفعله له معقولا أم لا. فهؤلاء الذين يبحثون عن قواعد ثابتة للمعارضة ينبغى عليهم أن يكونوا مستعدين للإحباط. وفى بعض الأحيان يكون من الأفضل المواجهة، وفى أحيان أخرى يكون منطقيا أكثر أن تخطط لإنجاز شىء ما. وفى بعض الأحيان يكون من الأفضل الرحيل، وفى أحيان يكون البقاء. وعندما يتعلق الأمر بالمعارضة، ليست هناك إجابة صحيحة، ناهيك عن الإجابة الصحيحة لكل المواقف. وهذا هو ما يجعل من الأمر معضلة. Richard N. Haass | NEWSWEEK