سيمر الثلاثاء المقبل خمس سنوات على أول مرة يشاهد فيها الأمريكيون الصور التى خرجت من سجن أبوغريب فى برنامج «60 دقيقة». وهنا أيضا، نود أن نتمسك بالخرافات التى تبعد الشر. فإذا سمحت بلدنا بالتعذيب، فمن المؤكد أنها فعلت ذلك لتمنع معركة مدمرة، مثلما حدث فى سيناريو القنبلة الموقوتة فى مسلسل «24»، المشهور عالميا. وإذا كان هناك من يستحقون اللوم، فهم أولئك الذين وصفهم الرئيس بوش ب«حفنة من الجنود الأمريكيين الذين أساءوا إلى بلدنا ولم يراعوا قيمنا»، واعتبر أنهم غير أخلاقيين وأشرار مثل لينى إنجلند، وتشارلز جرانر وغيرهما من الجنود الذين وجه إليهم الاتهام فى حين بُرئت القيادة العليا من المسئولية. وقد عرفنا الكثير، بل الكثير جدا عن أمريكا والتعذيب خلال السنوات الخمس الماضية. لكن، وكما كتب مارك دانر أخيرا فى مجلة «نيويورك بوك ريفيو»، بالرغم من كل ما تم الكشف عنه، تظل إحدى الحقائق الأساسية كما هى: «لم يأت عام 2004 حتى وجد الشعب الأمريكى أمامه رواية أساسية حول كيف قرر المسئولون المنتخبون والمعينون من قبل الحكومة تعذيب السجناء؟ وكيف عالجوا الموقف؟». وكانت إدارة أوباما على حق عندما أعلنت، منذ 10 أيام، رفع السرية عن 4 مذكرات تعذيب جديدة لأن محتواها، فى جانب منه، أصبح معروفا بالفعل. لكننا مانزال منزعجين من الحقائق الأشد قسوة والصورة الأكبر: كان التعذيب سياسة سبق التوصل إليها وإقرارها فى أعلى المستويات فى حكومتنا، وثبت تورط الأطباء النفسيين وأطباء الباطنة فى إحداث الألم، ولم يساعد هذا، حسب تقدير مصادر موثوق بها، مثل مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى روبرت مولر، فى إحباط أى هجمات إرهابية. ومذكرات وزارة العدل، التى صدرت أخيرا، شأن تلك التى صدرت قبلها، لم يكتبها أناس محدودو التعليم والكفاءة مثل إنجلند، وجون يو، وستيفن برادبيرى وجاى بايبى المتخرجين فى جامعات مثل هارفارد، ويل، وستانفورد. فقد أقرتها شركات قانونية كبرى. وكان بايبى قد استصدر باعتباره مساعدا للنائب العام مذكرة فى الأول من أغسطس 2002، تقر بإسهاب فى «أساليب» التحقيق الشرسة مثل «الصفع على الوجه صفع الإهانة» و«وضع الحشرات فى صندوق الحبس». وقد اقترح استخدام 10 من هذه الأساليب «بطريقة متصاعدة، تتوج بالغمر بالماء، وإن كان من الممكن عدم اللجوء إلى هذه الوسيلة». والغمر بالماء هو المفضل عند بول بوت ومحاكم التفتيش الإسبانية، استخدمته الولاياتالمتحدة فى محاكمات جرائم الحرب بعد الحرب العالمية الثانية. لكن بايبى ينتهى إلى أنه «لا يسبب ألما حادا أو معاناة، فى رأينا». وتستحق مذكرة بايبى نظرة أكثر تدقيقا لأنها تضيف شيئا جديدا بالفعل وصادم إلى قصة خمس سنوات من التعذيب. وعندما توضع فى سياقها الكامل تكون بمثابة دليل لا يقبل الشك يحررنا من الإنكار الذى يحول بيننا وبين التعامل مع هذا الفصل القبيح فى تاريخنا. وكانت المذكرة تخص معتقلا بعينه، هو أبوزبيدة الذى أُلقى القبض عليه قبل ذلك بنحو أربعة أشهر، فى أواخر مارس 2002. وتصور المذكرة أبوزبيدة على أنه أحد كبار قادة القاعدة (كما أشاع بوش بعد القبض عليه). لكن بحلول أغسطس ثبت زيف هذا. وكما يشير رون سسكند فى كتابه «مبدأ الواحد بالمائة»، فقد تم تعريف أبوزبيدة فور القبض عليه بأنه موظف تشهيلات، يعمل فى حجز تذاكر الطيران للجماعة الإرهابية و«لم يكن يعرف الكثير عن العمليات أو الإستراتيجية الحقيقية، وكانت تبدو عليه أعراض الفصام». وفى الوقت الذى كتب فيه بايبى مذكرته، كان أبوزبيدة قد خضع للتحقيق أمام مكتب التحقيقات الفيدرالى الأمريكى والاستخبارات المركزية على مدى شهور وقدم المعلومات القليلة التى يعرفها. وكان أهم إسهام قدمه هو إفادته بأن خالد شيخ محمد هو الرأس المدبر لتفجيرات الحادى عشر من سبتمبر لكن، كما كتبت جين ماير فى كتابها «الجانب المظلم». فحتى هذه المساهمة تعد خبرا قديما: إذ كانت وكالة الاستخبارات المركزية على علم بدور محمد منذ صيف 2001، كما تفيد لجنة الحادى عشر من سبتمبر. وفى مثل حالة أبوزبيدة مع محققى مكتب التحقيقات الفيدرالى، فإن الأساليب التقليدية كانت تفى بالغرض. لكن مذكرة بايبى تتضمن أن «مرحلة تصعيد الضغط» كانت مطلوبة لإرغام أبوزبيدة على الكلام. وما إن أعطى بايبى الضوء الأخضر، حتى توالى التعذيب: فى أغسطس 2002 جرى غمر أبوزبيدة بالماء 38 مرة، حسب مذكرة أخرى جديدة من المذكرات التى أفرج عنها. ولا غرابة فى أن المخابرات لم تحصل على معلومات مهمة بتعذيب عضو القاعدة هذا المريض عقليا. فلماذا إذن هذا الإفراط؟ ولا نعرف إن كانت بعض الحقائق الجديدة ستظهر لو أن ديك تشينى نجح فى حملته غير المتوقعة التى قوبلت بالترحيب للإبقاء على سرية الوثائق التى قال إنها ستبرئ ساحة سياسة التحقيقات التى تنتهجها الإدارة. هذا فى حين أن لدينا الدليل على تفسير بديل لدوافع بايبى لكتابة مذكرة أغسطس. والفضل للتقرير الشامل الذى أصدرته لجنة الشئون العسكرية بمجلس الشيوخ عن المعتقلين الذين أطلق سراحهم الأسبوع الماضى. فقد توصل التقرير إلى أن الميجور بول بيرنى، وهو أحد الأطباء النفسيين الذين كُلفوا بالتحقيقات فى خليج جوانتانامو فى صيف عام 2002 إلى مطلب آخر من مطالب البيت الأبيض «:كنا نركز معظم الوقت على محاولة إقامة صلة بين القاعدة والعراق ولم نحرز نجاحا فى هذا». ومع تزايد «استياء» الرتب العليا من العجز عن إثبات هذه الصلة، قال الميجور إنه «كان هناك ضغط متزايد لاتخاذ الإجراءات»، التى من تمكن من الحصول على تلك المعلومات. وقد كُتبت مذكرة بايبى بعد أسبوع من «مذكرة داونينج ستريت»، التى كانت سرا حينها (وتسرب محتواها فيما بعد)، وفيها يخبر رئيس المخابرات البريطانية تونى بلير أن بيت بوش الأبيض مصمم على دخول حرب العراق وأن «المعلومات والحقائق يجرى توفيرها لوضع الخطة». وبعد شهر من صدور مذكرة بايبى، فى 8 سبتمبر 2002. كان على شينى أن يظهر بمظهره المشين فى برنامج «واجه الصحافة»، وهو يشهر بأسلحة الدمار الشامل التى يملكها صدام و«عدد الاتصالات على مر السنين بين القاعدة والعراق». لكن العراق لم تكن له صلة بالحادى عشر من سبتمبر، وكان البيت الأبيض يعرف هذا. وكان التعذيب هو الأمل الأخير لانتزاع مثل هذه «المعلومات» الزائفة من معتقلين كانوا على استعداد لقول أى شىء يمكن أن يوقف الغمر بالماء. والأسبوع الماضى، رفض المدافعون عن بوش شينى، تقرير لجنة الشئون العسكرية بمجلس الشيوخ ووصفوه بأنه «منحاز». لكن، وكما أخبرنى رئيس اللجنة كارل ليفين، فقد أقرته اللجنة التى من بين أعضائها جون ماكين، وليندساى جراهام، وجو ليبرمان بالإجماع. كما أكد ليفين شهادات المحامين العسكريين الذين انشقوا عن مبدأ البيت الأبيض الذى لم يلق إلا التجاهل. فقد كانت إدارة بوش «مدفوعة»، على حد قول ليفين. «قالوا إن ذلك كان من أجل الحصول على المزيد من المعلومات. لكنهم كانوا يسعون يائسين من أجل إيجاد صلة بين القاعدة والعراق». وبعد مرور خمس سنوات على افتضاح أمر أبوغريب، يجب أن نقر بأن حكومتنا سمحت بالتعذيب بطريقة منهجية وكذبت فى هذا الأمر. لكن علينا أيضا أن نفكر فى احتمال أنها لم تفعل هذا برغبة صادقة، وإن كانت مضللة عن عمد، ليس ل«حمايتنا» لكن لإشعال حرب مدمرة لا طائل من ورائها. وبدلا من أن تنقذنا من «حادى عشر من سبتمبر آخر»، كان التعذيب أداة فى حملة لتزييف واستغلال الحادى عشر من سبتمبر لتضليل الأمريكيين المتخوفين من عملية لا صلة لها بالقاعدة. ويظل الكذب بشأن العراق الخطيئة الأصلية التى ينبع منها جانب كبير من لا شرعية بيت بوش الأبيض. ويرى ليفين وأنا معه أنه الوقت قد حان، مع اكتشاف المزيد من الحقائق، كى تشكل وزارة العدل لجنة من اثنين أو ثلاثة من السياسيين المستقلين، «لمراجعة هذا الكم من المواد» المتاح أمامنا بالفعل. فالحقيقة الأساسية هناك، كما توجد دائما. ويمكن للجنة أن توصى بطريقة تضمن المساءلة بشأن هذه الخيانة التامة للقيم الأمريكية. ويمكن للرئيس أوباما أن يقول كل ما يريد عن عدم النظر إلى الوراء، لكن هذا الماضى الشائن أكبر مما يبدو. ولن يقدر له أن يتحول إلى ثقب فى الذاكرة بأكثر مما حدث لمعسكرات اعتقال الحرب العالمية الثانية. وعلى البيت الأبيض والكونجرس والساسة من كلا الحزبين إفساح الطريق. ونحن لسنا بحاجة إلى لجنة أخرى. فما يجب أن نحققه، بعد طول انتظار، هو محاكمات عادلة تعلن عودة دولتنا إلى الالتزام بسيادة القانون. New York Times Syndication