حضرتُ من 23 إلى 27 نوفمبر بمسرح أوديون، فى باريس، ندوة بمناسبة مئوية ميلاد جان جينيه، شارك فيها باحثون وكتاب وأصدقاء عرفوا جانْ فى حياته. وقد صاحبت الندوة قراءة لقصيدته الشهيرة، الجريئة، «المحكوم بالإعدام» أنجزتها الممثلة القديرة جان مورو التى جاوزتْ سنّ الثمانين، كما قُدّمت قراءة لمسرحيته «هى» ولبعض النصوص القصيرة التى لم تُنشَر فى حياته.. وكانت مفارقة جميلة أن يستقبل مسرح أوديون هذا التكريم المتميز للكاتب المنشقّ الذى قوبلت مسرحيته «السواتر» سنة 1966، فى نفس المسرح باحتجاجات عاصفة نظمها اليمين الفرنسى الذى اعتبر المسرحية انتقادا لتجربة الاستعمار الفرنسى فى الجزائر! الآن، وبعد مرور 25 سنة على وفاة جينيه، ها هى اللقاءات والندوات والقراءات تمتدّ طوال السنة تقديرا لإنتاج شاعر وكاتب ترك بصمات عميقة على صفحات الأدب الفرنسى المعاصر، بل فى سجلّ الأدب العالمى. ما الذى يستوقف القارئ فى كتابات ومواقف جينيه؟ هناك، أولا، مسار حياته الملىء بالألم والعنف والتهميش. فهو لقيط لم يعرف أبويه وأحس باليتم والوحدة منذ الطفولة، ومارس السرقة فى سن مبكرة، وارتاد السجن والإصلاحيات التربوية، واكتشف مثليتَه الجنسية فتحملها بشجاعة،واهتم بالقراءة وتطلع إلى الكتابة فى سن السادسة عشرة حين تبيّن أنه لن يستطيع تغيير العالم على حدّ قوله. لكن حياة الهامش ما كانت لتؤتىَ أكلها لولا أن جينيه كان يتوافر على ذكاء خارق، وحساسية رقيقة وموهبة أدبية فائقة. أدرك منذ البدء أن إسماع صوته عبر الكتابة يقتضى أن يتقن اللغة ويتفوّق فى استعمالها لكى يضطر خصومه، أى مجتمع المؤسسات، إلى قراءة ما يكتبه. ومن ثمّ حفظ قصائد عديدة لرامبو ومالارميه وكلوديل وغوتيتيه، وتزود بروائع الرواية، وطاف تائها بوهيميا عبر أقطار أوروبا. ومن داخل السجن، فى أربعينيات القرن الماضى، كتب نصوصه اللافتة: «المحكوم بالإعدام»، «نوتردام دى فلور»، «موكب الدّفن»، فلفت نظر كبار الكتاب آنذاك وفى طليعتهم جان كوكتو وسارتر اللذان عملا على إخراجه من السجن. غير أن جينيه لم يغيره النجاح، ولم ينجذب إلى الأجواء المخملية، وإنما ظل متعلقا بالرؤية التى بلوَرها وهو يواجه الوحدة وظلم المجتمع. لم يقبل أن يندمج فى مناخ الحلقات الأدبية ولم يستسلم إلى الشهرة وإغراء المال. أصرّ على أن يتابع حياته على الهامش وأن يواصل الكتابة ضد مجتمعه، فرنسا، التى يكرهها، بل وضد العالم المصاب باختلالات ظالمة. منذ البدء، أعلن انشقاقه وقطيعته مع القيم السائدة المتحدّرة من الديانة المسيحية، يقول فى هذا الصدد: «..أدبكم وفنونكم الجميلة، وتسلياتكم بعد العشاء، كل ذلك يحتفل بالجريمة. إن موهبة شعرائكم قد مجدت المجرم الذى تكرهونه فى الحياة. اسمحوا لنا بدورنا أن نحتقر شعراءكم وفنانيكم». ولم يكن هذا الانشقاق يقوم على الزعم بالقدرة على تقديم البديل، وإنما كان موقف رفض جذرى لا ينطوى على أوهام، إذ يقول: ليس لى صورة عن مجتمع أعارض به مجتمعكم، فهذه مسألة لا تهمنى...». ويضيف فى مكان آخر: «أتمنى ألا يتغير العالم لكى أسمح لنفسى بأن أكون ضدّه». هذه الجذرية فى رفض أوهام العالم ورفض تصريحات النوايا الإيديولوجية، هى التى ستوجهّه فى تحديد موقفه من الكتابة والسياسة. لقد أدرك أن الكتابة لا يمكن أن تغير العالم، ولكنها تصبح مؤثرة ومحركة للوعى عندما تقوم على أسس جمالية ورؤية تتخطى ما هو ظرفى وعابر. والبُعد الجمالى هو ما يتيح الاقتراب من مكونات الحياة وتجلياتها التى تلامس الوحدة والحب والعنف والموت والغربة، أى العناصر التى تجعل الإنسان يستبطن الألم ويجسر على التحدى. إلا أن الكتابة لا تكون مبررة إلا عندما تكون مصحوبة برؤية تتخذ من «الخيانة» مطية لاكتشاف ما تخبئه المظاهر ويحجبه الكسل. الخيانة وسيلة للتخلى عن المألوف ومساءلة ما وراء المظاهر. أما الوفاء فهو استكانة إلى المألوف واستسلام لرتابة التفكير والعواطف المستقرة.. لا يريد جينيه أن تغدو الكتابة اجترارا أو تكرارا لما قيل، بل هى لديه توغُّل فى مجاهيل الذات، واستنطاق للمسكوت عنه، وتظهير لما يُراد إخفاؤه. وهذا ما نجده فى مسرحياته التى تدثرتْ بالطقوس والسخرية والتنكّر لقلب المواقف وتعديد الدلالة، وبث الحركة فى كلام الشخوص. وإلى جانب هذا التصور الذى استوحاه فى كتاباته الأدبية، نجد أن جينيه حرص على أن يُسمع صوته فى ساحة السياسة، لكن من منطلق «شعرى» لا يهتم بالتفاصيل الظرفية بقدر ما يهتم بالرفض الثورى، المبدئى، لكل ما يمثل الظلم والاستعمار والاستغلال. ما كان يهمه بالدرجة الأولى، هو أن يناصر المستضعفين ضد من يمتلكون السلطة والقوة. يقول فى هذا الصدد: «فى النهاية، أنا مع الفرد المتوحد الذى ينتصب ضد مجتمع على درجة عالية من التقنين مثلما هى المجتمعات الأمريكية والغربية أو أى مجتمع آخر فى العالم يزعمُ أنه يُبيد الشرّ. إننى أقف إلى جانبه مثلما أساند الفنان الكبير الذى يتصدى لمعارضة المجتمع بأكمله، لا أقلّ ولا أكثر. إننى مع الإنسان المتوحد كيفما كان. غير أنه بالرغم من كونى «أخلاقيا» مع مَنْ هو وحيد، فإن الأفراد المتوحدين يظلون دائما فى قبضة وحدتهم...». وقد توقف كثير من المتدخلين، فى ندوة باريس، عند كتاب جينيه الأخير «أسير عاشق» (1986)، لأنه يقدم نموذجا غير مسبوق، شكلا ومضمونا، ويعلن عن عودة جانْ إلى الكتابة الأدبية بعد انقطاع دام عشرين سنة! فعلا، لم ينشر شيئا منذ ستينيات القرن الماضى إلى أن شاءت المصادفة أن يكون موجودا فى بيروت سنة مذبحة صبرا وشاتيلا (1982)، وزار ا لمخيم المنكوب وعاين الجثث المبقورة والرءوس المقطوعة، فكتب نصه القصير «أربع ساعات فى شاتيلا» الذى سيصبح هو نواة كتاب «أسير عاشق». وما يستحق التأمل فى هذا الكتاب الرائع، هو أنه جمع بين الشكل المتميز واللغة الواصفة الدقيقة، واستعادة ذكرياته مع الفلسطينيين عندما أقام معهم فى مخيماتهم بالأردن. حقق جينيه فى هذا الكتاب إنجازا مزدوجا: كتابة الذاكرة عبر السرد والتأمل والاستطراد وتجاوُر الفضاءات واللغة الشعرية النابضة، ثم ابتعاث الحياة فى نساء ورجال وفدائيين فلسطينيين يمثلون الثورة فى بهائها وعنفوانها وتلقائيتها. وعلى هذا النحو، تجاورت الكتابة بالمطلق مع «الشهادة» على مرحلة من الثورة الواعدة، وأيضا على البحث المضنى الذى كان جينيه يقوم به ليصل إلى صورة أمه المجهولة لديه، من خلال استحضار صورة أمّ الفدائى حمزة التى حملت إليه الشاى ذات فجر من رمضان، فى الأردن.. على الرغم من أن جينيه كان يكره الاحتفالات ومظاهر التكريم، فقد كانت ندوة مسرح أوديون عُرسا يُتوّج كاتبا نادرا، تنفتح نصوصه ومواقفه على أسئلة المستقبل وتقدم نموذجا عميقا للكتابة عندما تغدو عزاء وسط الغربة، ورفضا للظلم والعنصرية والاحتلال.