مشكلة القمامة فى إيطاليا تهدد مستقبل رئيس الوزراء سيلفيو برلسكونى. ذلك أن الرجل حين فاز فى انتخابات عام 2008 كان قد قطع عهودا على نفسه بالتخلص من القمامة التى تراكمت فى شوارع نابولى. وما إن تحقق له مراده حتى بادر إلى استدعاء الجيش للإسهام فى العملية، وافتتح مواقع جديدة للتخلص من القمامة. وبنى منشأة لمعالجة النفايات، ومن ثم أعلن انتصاره فى معركته ضدها. اليوم أصبح هذا النصر كأن لم يكن. حيث عاودت أكوام القمامة ظهورها فى نابولى. ولم تعد منشأة معالجة النفايات تعمل بكامل قدرتها. وتحدثت التقارير الصحفية عن بدء انتشار التمرد فى مدينة تبريز بينو بين السكان بعدما أصبحوا يعيشون وسط الروائح الكريهة التى تنبعث من أحد مواقع التخلص من النفايات. وفى الأيام الأخيرة، خرج المئات إلى الشوارع. وأعاقوا شاحنات نقل القمامة، مما أدخلهم فى مناوشات عنيفة مع الشرطة. ومرة أخرى وعد برلسكونى بحل المشكلة، لكن الأمر اختلف هذه المرة، لأن قليلين فقط أصبحوا يصدقونه. ولم تعد تنطلى عليهم الأساليب التى يتبعها فى كسب ود الناس وامتصاص غضبهم. من خلال إطلاق النكات وترديد الوعود الكبيرة. إذ من الثابت أن شعبيته فى تراجع مستمر وحل محلها شعور متزايد بالعجز والسخط. بعدما ضاق الناس ذرعا بوعوده فضلا عن سلوكه الشخصى ومشاكل حكومته. وما حدث فى تبريز بينو مرشح للتكرار فى بقية المدن الإيطالية. ذلك أن سكان تلك المدينة الكئيبة ذات المنازل الخراسانية لم يعودوا يرغبون فى التخلص من أكوام القمامة التى تحاصرهم فحسب، لكنهم أصبحوا يجهرون برغبتهم فى إسقاط برلسكونى الذين صوتوا له من قبل بعدما خذلهم، ولشدة غضبهم فإنهم خرجوا عن طورهم فى الأسبوع الماضى. واضرم بعضهم النيران فى شاحنات القمامة، وهاجموا موقعا كانت الحكومة قد شرعت فى توسيعه للتخلص منها، بعدما امتلأ عن آخره ولم يعد قادرا على استيعاب المزيد من النفايات. خلال مؤتمر صحفى عقده برلسكونى فى الأسبوع الماضى أعلن أنه سيتعاون مع السلطات المحلية لحل المشكلة فى الأيام المقبلة، وأضاف بنبرة حانقة إن التغطية الإعلامية لأزمة القمامة أضرت بصورة إيطاليا. لكن كثيرين لم يأخذوا كلامه على محمل الجد لأن سمعة حكومته أصبحت فى الحضيض، فضلا عن اقتناع الأغلبية بأن سلبية الحكومة المحلية، إضافة إلى نشاطات الجريمة المنظمة، من العوامل الأساسية التى أسهمت فى تفاقم مشكلة القمامة واستعصائها على الحل. لا يغيب عن فطنتك أنه ما كان لمثلى أن يهتم بالقمامة فى إيطاليا ومدى تأثيرها على مستقبل السيد برلسكونى إلا لأننا شركاء فى ذات الهم، بل ربما كان همَّنا أكبر لأن ثمة عوامل موضوعية توفرت لهم فى إيطاليا تعطيهم أملا فى إمكانية حل المشكلة وتجاوزها، فى حين أننا فى مصر لا نكاد نرى فى الأفق أملا من ذلك القبيل. وأول ما يخطر على البال فى هذا الصدد أن الأزمة تهدد مصير برلسكونى الذى أصبح يحاكم شعبيا وإعلاميا كل يوم، فى حين أن انتشار القمامة فى بر مصر وتراكمها فى أنحاء عاصمة «أم الدنيا» لم يحرك شعرة فى رأس أى رئيس لضاحية أو حى. ناهيك عن المحافظ أو الوزير. كما أننا لا نحلم بأن يساءل أو يحاسب عنها رئيس الوزراء. ومن الواضح أن جميع أولئك المسئولين مسترخون فى مقاعدهم لعلمهم أن أحدا لن يحاسبهم إذا قصروا فى حق الناس والمجتمع، طالما أنهم يقومون بمستلزمات الولاء والطاعة ويؤدون «الواجب» فى تأمين نظافة المناطق التى يسكن فيها الأكابر والشوارع التى تمر بها مواكبهم. ثمة فرق آخر لا يقل أهمية بينهم وبيننا غير الديمقراطية التى تسمح للناس بمحاسبة رئيس الوزراء ومعاقبته بإسقاطه فى الانتخابات، هو أن الناس هناك يغضبون لما آل إليه أمر القمامة، ويخرجون إلى الشوارع معبرين عن ذلك الغضب بوسائل شتى، لكن الناس عندنا قد يغضبون حقا ويملؤهم السخط لكنهم يحبسون مشاعرهم ويبتلعون انفعالاتهم. حتى أصبحت أشك فى أنهم تعايشوا مع القمامة وألفوها بمضى الوقت. وخشيت أن يجىء يوم يعربون فيه عن استيائهم إذا ما افتقدوها، واستيقظوا ذات صباح ليفاجأوا بأن القمامة رفعت من الشوارع.