يشبهها العارفون بأسطورة الغناء الفرنسي، أديت بياف، أو بالعملاق شارل إزنفور. والأكيد أن الفنانة اللبنانية، ماجدة الرومي، باتت أيقونة الطرب والفن الراقي في العالم العربي، ورمزا للمرأة الحقيقية الشفافة، التي لا تخفي وجها آخر أمام الأضواء الكاشفة. حب الناس لها لا يقتصر على أعمالها الفنية، بل يتجاوزه إلى شخصيتها الحساسة الذكية وحسها الإنساني. فهي امرأة تفكر وتشعر وتغني كأنها في السماء، وتحرص في الوقت نفسه أن تبقي قدميها ثابتتين في الأرض، دون أن تغرق في الترف، وأوهام الشهرة، أو تسجن نفسها في برج عاجي لا يليق بترفعها ونبلها. منذ أضاء صوتها "ليالي الأنس في فيينا" زنبقة في السادسة عشر ربيعا، واللبنانيون يشكرون السماء التي أهدتهم ماجدة، ويفخرون بحضورها وتعوض خجلهم بمن هبط بالغناء اللبناني إلى أوضع المستويات. تتحدث عن فنها بحب وكذلك عن السلام، وبحب ووجع تتحدث عن آلام الإنسانية، أما عن تجربتها في كتابة بعض أغانيها، فبتواضع عميق وخجل ترويها. التقتها "CNN" بالعربية بمناسبة تكريمها من قبل الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، الذي منحها نهاية الشهر الماضي الوسام الأرفع في الجمهورية، وهو الوسام الوطني للاستحقاق الثقافي. صوت ماجدة وفنها سحر التونسيين، وعبروا عن حبهم بفيض من المديح تجلى في تدفقهم لحضور حفلاتها، وصدى إعلامي رائع لأعمالها. وعن هذا الجمهور تقول: "لم أقابل جمهورا يشبه الجمهور التونسي أبدا، لديهم طريقة لافتة للنظر، ويعبرون عن ذلك في اللحظة ذاتها سلبا كان أم إيجابا". السيدة التي عرفت المجد في عطائها الفني عرفت الألم والخيانة أيضا في حياتها، ويحبها جمهورها لكل هذا، وخصوصا لشموخها وترفعها. عن تجربتها تقول: "الحب يختصر الحياة بالنسبة لي، ولا مكان لأي شيء آخر، لا أعني الغرام وحسب، بل الحب بكل معانيه وفرح العطاء". تتابع: "كرمني ملوك ورؤساء، وغنيت في أعلى المقامات، وفي مسيرتي التقيت كل أنواع الناس، وبقي دائما مفهومي لعظمة الإنسان هي نبل نفسه. فما استطاعت نفس أن تكون كبيرة من دون حب. لم يترك في نفسي من كل هؤلاء ما أستعيده ببالي إلا من استطاع أن يكون تمثيلا لفكرة الحب". بماذا تحلم ماجدة الرومي اليوم بعدما حلمت طويلا بوطنها لبنان؟ تجيب الفنانة ماجدة: حلمي يتخطى الصوت والنجاح.. أحلم أن أكون رسالة حب في الأرض.. معركتي في الحياة أن أحاول التعبير عن هذا الحب من خلال إيماني بالإنسان.. أريده إيجابيا يزرع الفرح والأمل من حوله، سموحا وسيع القلب. وتستدرك قائلة: أخاف أصحاب القلوب المظلمة، وتؤلمني بشاعتهم.. أصلي كي لا أشبههم أبدا، هؤلاء العاجزون عن الحب الخائفون من العطاء نفوسهم مقفلة بأغلال من حديد، ويستحيل أن تلامسي الجانب الندي من نفسهم أو الطفل فيهم، يتسببون لي بحزن عميق. وعن مفهومها للحرية تقول: أكثر الناس عبودية هم الذين لم يبلغوا رفعة الحب والعطاء. يعتصر الألم قلب ماجدة الشفاف بسبب ما يمر به لبنان من ظروف صعبة؛ فما مدى اليأس والخوف في نفسها على وطنها؟ تنتفض، وتقول: لا أخاف على مصير وطني، تذكري بأن لبنان يقيسنا بعيون الأبدية، بينما نقيسه نحن بعين الزمن. وتعود لتسأل بغضب: ماذا يفعلون بوطني؟ يؤلمني ما أشهده من صراعات تجرحني وتشعرني بالخسارات التي تلحق بشعب يعيش أزمات متلاحقة منذ عقود، والكارثة هي ضياع حياة الناس وعمرهم سدى. هم العابرون لهذا الكون لسنوات معدودة. وتكمل حديثها: يتعاملون اليوم مع لبنان وكأنه مؤسسة للبيع والشراء، بعدما مات مئات الآلاف، وهاجر أكثر منهم وتفرقت العائلات. ويعجز الباقون عن العيش بكرامة. وأسألها لماذا لا تعبر عن وجعها هذا عن طريق السينما؟ فتجيب: ستستغربين لو قلت بأن حلم حياتي الأول هو السينما، وليس الغناء. أشعر أن بإمكاني تقديم الكثير للسينما، لو جاء الدور المناسب يوما. ولكن، كيف تحافظ ماجدة على تماسكها وتستمر في الإبداع وسط كل هذا الألم؟ ليس من السهل أن يكون الإنسان إيجابيا في هذا العالم البشع، وأنا أيضا ككل الناس يخطر ببالي أن أنحدر نحو السلبية، لكنني معجبة جدا بأشخاص إيجابيين انطبعت تصرفاتهم في وجداني. من هؤلاء تذكر ماجدة، العاهل الأردني الراحل الملك حسين، فتقول: تربطني بالعائلة الهاشمية علاقة محبة واحترام، وعندما كان الملك في آخر مراحل مرضه، وعلى مشارف الرحيل، اتصلت، فرد أحد مرافقيه، وقلت أنا ماجدة الرومي، أود أن أطمئن عن صحة جلالته، وأرجوك أن تبلغه أنني أصلي ليشفيه الله، فوعد بذلك. وبعد أقل من نصف ساعة، عاود الملك المحتضر الاتصال بي، ليشكر اتصالي وسؤالي عنه. وتتوقف ماجدة لتسال: أترين كيف يصبح الكبار كبارا؟ سنوات طويلة مرت على هذه القصة، وأنا لا أقدر على نسيانها. لا أريد نسيانها، بل أحرص أن أطبقها في حياتي لأنني أراها تصرفا يليق بالإنسان. هذا الملك، رحمه الله، واحد من الذين تركوا علامة في نفسي لتصرفه بكبر. فهذا شيء جميل. ترى ما الذي أوصل الفنانة القديرة ماجدة الرومي إلى هذه الحرية والروحانية، أهو النجاح أم الخيبات؟ فتجيب: الوجع هو ما أوصلني إلى الحرية! أتدركين معاناة الإنسان قبل أن تطلع روحه! عندها (تطلع روحه) يكون شيئا رائعا. تبلغ الروح قمم الفرح والحرية. لا يعود يخيفها الحزن ولا المصاعب ولا الفقر، أو يرهبها غاصب في الأرض، يصبح كل ذلك صغيرا، ويتلاشى أمام عظمة الخالق الذي كتب أقدار الناس. وتختم حديثها: "عندما ننظر إلى حياتنا من منظار الإيمان يصبح كل شيء صغيرا وسهلا، لم يعد هناك ما يحبطني، ما من شيء صعب عندي أو قادر أن يكسرني. لدي قوة في نفسي ليست من ذاتي، بل من خالقي الذي أسلمته أمري". وماجدة كانت عبرت عن هذا الشعور في أغنية "ما راح أحزن عا شي"، التي كتبت كلماتها بنفسها، وهي تؤكد اليوم أن الآتي أجمل.