أن تأتى متأخرا أفضل من ألا تأتى.. تصلح هذه الحكمة للتطبيق على حالات عديدة، إلا حالة الدكتور محمد البرادعى، ذلك أنه ثبت بالتجربة أنه كلما كان البرادعى قريبا وحاضرا وموجودا بين الجماهير، كان تأثيره واضحا وفاعلا فى تعميق الإحساس بأن التغيير ممكن، وأن شيئا مما حلمت به الجموع يمكن أن يتحقق، أو على الأقل يكتسب مساحات من التحقق تصلح للبناء عليها وصولا إلى الهدف. وعلى العكس من ذلك كلما تأخر البرادعى فى الوصول، وكلما ابتعد جغرافيا مكتفيا بإطلالة عابرة بين الحين والآخر على جمهوره وأنصاره من نافذة إلكترونية ضيقة، فتر الحماس، وتضاءل الأمل، وأصيب الحلم المتوهج بالشحوب والهزال، وفى مقابل ذلك يدعم المعسكر الآخر فرصه فى البقاء والاستمرار، بقوة الأمر الواقع، وبطش ابتعاد البديل. ولا أظن أن البرادعى آثر الابتعاد، والاكتفاء بإلقاء نظرة على المشهد من شرفته الأوروبية كنتيجة مباشرة لتلك الحرب الجرثومية البذيئة التى شنوها ضده وتناولوا فيها سمعة عائلته على نحو غير أخلاقى. ذلك أن البرادعى منذ البداية لابد أنه كان يضع فى حسبانه أنه سيصطدم بعراقيل وتلال من قمامة القول والفعل فى الطريق الذى اختاره، تأسيسا على قاعدة تقليدية للغاية تقول إن أثمان النضال السياسى فى دول العالم الثالث الرازحة تحت نير الاستبداد، دائما ما تكون أثمانا فادحة ودامية أحيانا. فضلا عن أن البرادعى خرج فائزا من معركة المايوه القذرة، حيث انقلب السحر على ذلك الساحر الغشيم وانتهت القصة بتعاطف والتفاف أكبر حول الرجل الداعى للتغيير، حتى أن رموز المعسكر الآخر سارعوا إلى إدانة نشر الصور وإعلان براءتهم منها. وأغلب الظن أن ابتعاد البرادعى أو اختياره لدور «المنظر الملهم» بدلا من دور «المشارك المشتبك» نابع من تركيبته الشخصية بالأساس، بالنظر إلى أنه طوال عمره المديد لم يمارس السياسة بمعناها العام والمباشر، بما تفرضه من التحام مباشر بالجماهير، حيث أمضى سنوات حياته تحت ظلال الدبلوماسية الهادئة الناعمة، ومن ثم لم يكن منطقيا أن يتحول بين عشية وضحاها إلى مناضل وسط الجماهير. ويبقى أن على السادة الأفاضل الذين اعتبروا الاقتراب من مناقشة حدوتة البرادعى نوعا من التحبيط والتثبيط أن يقارنوا بين حالتهم عندما يكون البرادعى موجودا فى مصر ومشاركا، وبين حالتهم عندما يسافر ويبتعد.. ويستعذب الابتعاد والنظر على المشهد من هناك.. وساعتها سيدركون من أين يأتى الإحباط.