لدى دخولك عالمه، تشعر أنك مقبل على لقاء ناسك حقيقى، ينسج بتفانٍ وصبر أحزان الطبقة الوسطى، غير مبالٍ بندرة إنتاجه، فهو ممتنع عن دخول معارك «المصالح الصغيرة»، تلك التى بات الوسط الثقافى لا يعرف غيرها، هو علاء الديب الذى لعب دورا كبيرا فى تقديم الكثير من أبناء جيله جيل الستينيات عبر مقاله: «عصير الكتب» بمجلة صباح الخير، وكتب مجموعتين قصصيتين ومجموعة من الروايات القصيرة «النوفيلا» درتها «زهر الليمون» الصادرة فى 1978، ثم وضع شهادته كمثقف على حقبة مهمة من تاريخ السقوط فى مصر بين دفتى كتاب «وقفة قبل المنحدر» عام 1990، اكتفى بعدها بباب ثابت بجريدة القاهرة واصل فيه دوره الذى أحبه على مدى نصف قرن كقارئ محترف للأدب، معتزلا الحياة العامة منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما واختار الكتابة بجريدة القاهرة «لأنه لا يحب الزحام فى الصف الأول». القصة بالنسبة لعلاء الديب ليست قدرة الكاتب على أن يفرض نفسه على قارئ إنما «إقامة علاقة محبة واحترام وتقدير مع أقل عدد من القراء وهذا يكفى لأنهم يصنعون بعد ذلك دوائر أوسع». فيما يلى حوار مطول مع علاء الديب بدأته بالسؤال عن أسباب رجوعه الدائم للمرحلة الناصرية فى الكتابة، رغم أنها فى عين البعض صارت موضة عفا عليها الزمن؟ فقال: أنا أقصد الحالة التى كان عليها المجتمع لا عبدالناصر أو نظامه أو إنجازاته أو عيوبه، المرحلة الناصرية التى يتهم أمثالى حين يكتبون عنها بأنهم يكتبون كليشيه، كانت مليئة بالحركة والكرامة والحلم، وهى أشياء اختفت الآن واختفت معها فكرة الوطن، والقومية العربية، وحلت محلها العولمة والخصخصة والفساد والقذارة وغياب الكرامة فى عيون البشر، وهذه أكثر الأشياء إيلاما لى، فالمواطن المصرى لم يعد لديه شعور بالكرامة. ويضيف بحزن «لا استطيع نزول الشارع، لأنى لا أحب أن أرى الناس على هذا الحال، فى الوقت الذى كنت أنزل فيه الشارع وأجلس على المقاهى كانت الناس على فقرها لا يغيب عنها الاعتزاز بالنفس». فى المرحلة الناصرية كان هناك رأس يدير هذه الأمة أقاطعه تقصد مشروعا وطنيا، فيرد هذا كليشيه لا أحب التمسك به كان هناك نزعة فى العالم كله نحو فكرة قومية استغلها عبدالناصر، وعلى الرغم من أنها كانت تنتهى فى العالم كله فإنه استمر فى انتهاجها، وكان حتما عليه أن يرى أن ذلك ينتهى فى العالم ويفشل. • لهذا السبب كتبت «وقفة قبل المنحدر»؟ شعرت بالمنحدر حين قررت أن أفعل مثلما فعل كل أبناء جيلى وسافرت للعمل بالسعودية عام 1974، وبدأت المهانة بعد أن حصلت على تأشيرة مكتوب عليها «صالح للعمل فى جميع الأجواء» وهناك اكتشفت مدى الكراهية التى يحملها سائر العرب لنا وأن القومية العربية أكذوبة، حتى الفلسطينيين كانوا يزدرون المصريين ويعتبرون أننا بلد منفلت، انتهت تجربة السفر بعد شهرين فقط وعدت وقد بدأت فى كتابة مقالات «وقفة قبل المنحدر». • فى كتاباتك كثير مما يسميه البعض «جلد الذات»؟ «جلد الذات» أيضا كليشيه يميل البعض لاستخدامه هربا من كلمات «الضمير» و«الاحساس الحقيقى بالآخر» والشعور بالتقصير فى أداء دورك تجاهه، يجوز أننى أبالغ فى تقدير الواجبات التى كان من الممكن أن نؤديها ولم نفعل، وأقصد هنا أصحاب القلوب السليمة فى جيلى، فهناك على النقيض البعض ممن يتصورون أنهم صنعوا معجزات، وقدموا أفضل ما يمكن تقديمه، فى حين أن ما قدموه هو غثاء، البعض يظن أن الكم هو المقياس فى أداء أدوارهم فتجد من لديه 70 رواية وترجم ل30 لغة وكلها مقاييس لا دلالة حقيقية لها على القيمة أو الدور. • تمر الساحة الثقافية بالسؤال الصعب عن العلاقة بين المثقف والسلطة السياسية، وقد صار المثقف الذى يعمل فى أحد مناصب وزارة الثقافة فى مرمى النيران، كيف ترى حدود هذه العلاقة؟ العلاقة بين المثقف والسلطة قائمة الآن على منافع ضيقة ومعارك صغيرة، بالضبط مثل ماتش الكرة، لا هم يتدربون ولا يلعبون لكن يتشاجرون فى المدرجات. لم يحدث أن اشتبك مثقف مع وزارة فاروق حسنى بسبب قضية جادة، فكل ما أثير تجده فى النهاية مرتبطا بالمصالح الصغيرة والمناصب، ولم يناقشه أحد طوال هذه المدة فى استراتيجية الثقافة التى دخل بها وما حققه فعلا منها، لا يمكن أن ننكر أن هناك محاولات لكن ما حدث أن هذه المحاولات وضعت فى أيدى الباحثين عن المال و«السبابيب» بالتالى انتهت إلى لا شىء. فالفساد لا يخص الحكام وحدهم بل النخبة من الساسة والفنانين والمبدعين أيضا، و«اذا فسد الملح فبماذا يملح» وهؤلاء من كانوا يصنعون كل شىء، الفن والثقافة والسياسة ورؤية الناس للوطن ولأنفسهم. ويروى: «بالأمس اتصل بى كاتب معروف يهدد بالعراك مع وزارة الثقافة وفضح الوزير والفساد بسبب نص قدمه لجريدة القاهرة ورفض، ويطالبنى أن أدلى برأيى فى النص باعتبارى مستشارا لجريدة القاهرة، وحين قرأت النص وجدت أنه لا علاقة لى به على الاطلاق». • هل تشعر أنه تم تهميشك بشكل مقصود لأنك خارج كل شلل الوسط الثقافى؟ لا أشعر أنه تم تهميشى، فلدى إحساس بأهمية الدور المتواضع الذى قمت به بينى وبين نفسى، فمع التقصير لم أقدم شيئا خاطئا. أنا راضٍ عما أفعله وأحبه، فالتقدير الذى ألقاه من قارئ واحد حقيقى يوازى عندى كل ما يحققه الآخرون من نجاحات وسفر وجوائز. • لكن كأديب لست فى صدارة المشهد؟ يجوز أننى مختلف عن الذوق العام أو أحلم بقارئ من نوع مخصوص، أو أنى أقدم بضاعة يحتاج تذوقها جهدا، ربما هناك فجوة فى التسويق، لكن لا يمكننى أن أجزم بمؤامرة إلا إذا كان لدى إثبات، فأنا لا أحب استخدام هذه الكلمة، ولم يحدث أن اضطهدت بشكل مباشر إلا حين منعنى السادات من الكتابة فى صباح الخير فى السبعينيات مرتين. • أنت لا تسافر للمشاركة فى مؤتمرات ولم تحصل على أية جوائز سوى تقديرية عام 2001، ولم تترجم للغات كثيرة.. هذه الأشياء تحتاج إلى نوع آخر من الحياة والسلوك، وأنقذنى الله من التربح بالكتابة لأنه باستمرار كانت لدى وظيفة وعشاء وغطاء وسقف أنام تحته، كانت الكتابة طوال هذه السنوات وسيلة للمحبة وليست أكل عيش. • من الملاحظ أنه على كثرة الصفحات الثقافية فى الجرائد لم يعد أحد قادرا على التبشير بموهبة جديدة، من خبرتك فى لعب هذا الدور كيف تفسر ذلك؟ المسألة أن تجد نصا جميلا فتكتب عنه بحب، هذه هى المعادلة التى سرت بها طوال الوقت، لكن أغلب عمليات النشر فى الجرائد الآن يتدخل فيها المصالح الضيقة والأعمال الصغيرة من ناحية، ومن ناحية أخرى يؤدى بعض المسئولين هذا الدور بشكل روتينى بلا ذائقة. أيضا هناك أزمة بسبب غياب النظرية الجمالية فى الفن عموما، وغيابها هو أس البلاء، فأنت لا تجد أغنية جديدة جميلة ولا فنا تشكيليا، هل يمكن أن تكون الأغنية المصرية أبوالليف وشعبان عبدالرحيم؟! • جد على السوق شريحة جديدة من القراء غيروا خارطة البيع، وهم يفضلون أبوالليف والكتابات الساخرة وما إلى ذلك.. بالطبع، فتغير الوسائل وسهولة الاتصال والتغيرات الاجتماعية، أنتجت هذه الشريحة لكنها لم تقدم حتى الآن منتجا جديدا له قيمة، مازالت هذه الشريحة من الكتاب والقراء، فى مرحلة التجريب ومحاولة صناعة شكل، وكلهم يدورون فى كلمة جديدة هى «الفضاء»، وهو ما كنا نسميه نحن الوطن لكن اندثرت هذه الكلمة مع التشوهات التى نعيشها الآن واستبدلت بالفضاء، وبعد أن كنا نكتب ونناقش قضايا الوطن فجأة بعد العولمة اختفى كل ذلك وحل محله العدم والعشوائيات والفقر والفساد والتيارات الإسلامية السياسية المتطرفة وكل ذلك فى رأيى أعراض لمرض أصاب المجتمع. • إذا أنت ترى أن هناك محاولات جادة للتجريب وخلق نظرية جمالية خاصة بجيل الشباب.. المشكلة أن هناك وحشا اسمه السوق، حاضر طوال الوقت أيضا، فصاحب رأس المال يريد الكسب وتحقيق الربح أما الجهات الثقافية الحكومية فمصابة بالشللية والمصالح الضيقة. لكن فى الأمر جانبا إيجابيا فبعد الكثير من التجريب والتخريف، هناك عودة للبناء الكلاسيكى فى الكتابة والفن بشكل يحترم عقل القارئ، إذ إن اتجاه الكتاب والفنانين لفترة طويلة إلى التغريب والكتابة بذاتية مفرطة أدى إلى فجوة عميقة بينهم وبين جمهورهم. • قلت فى مطلع كتاب «وقفة قبل المنحدر» ذاكرتى آخر معاركى وفيها لا أقبل الهزيمة»، لأى مدى لعب الأدب دور فى حفظ هذه الذاكرة، خاصة أن أبطالك طوال الوقت يشبهونك؟ - أقصد بالهزيمة أنى لا أقبل العزاء فى ذاكرتى، فهى آخر حصن لدى وأنا متمسك به، فهو الذى يعطينى قدرة على رؤية الحاضر، وآمل فى صناعة أى شكل من أشكال المستقبل، وطوال الوقت تحاول الحكومات محو هذه الذاكرة عند المجموع وعند الفرد، ودور المثقف أن يقاوم هذا المحو وإبقاء الذاكرة حية وأن يبقيها موظفة. • لكن هذه الذاكرة أحيانا تكون عبئا ثقيلا على الأدب، فلأى مدى شعرت بهذه الأزمة؟ هذا مرتبط أولا بمعنى ووظيفة الكتابة بالنسبة لى، فالكتابة هى صناعة التقدم بأى شكل من الأشكال سواء كنت يسارا أو يمينا أنت تحاول صنع أفق جديد مع القارئ وتقدم وحضارة فى رداء الفن، طبعا دون الغرق فى الشكلية. وثانيا بأنى أكتب عن نفسى لأنها الشىء الوحيد الذى أعرفه معرفة حقيقية، أنا ابن الطبقة الوسطى مشغول بالكتابة عن أفكارها وهمومها، وفى هذا الاطار عملت وانتجت كل كتاباتى، يبقى لدى جزء أخير أتمنى أن يسعفنى العمر وأنجزه هو النهاية المأسوية بتلاشى هذه الطبقة.